icon
التغطية الحية

عمليات التجميل والممثل الفارغ ثقافياً

2022.11.24 | 18:21 دمشق

تجميل
الممثلة الأميركية أودري هيبورن 1953 (بدون تجميل/ تويتر)
+A
حجم الخط
-A

بدأت معايير الجمال تتوحد مع ثورة الاتصالات وفق أنماط محددة وسريعة التغيير، وأصبح تحقيق هذه المعايير بمتناول الجميع عبر عمليات التجميل.

ولعل أكثر من يروج لهذه الأنماط (الجمالية) هم المشاهير، وعلى رأسهم بعض من يمتهنون التمثيل. فأصبح كثير من الممثلين والممثلات نسخاً متطابقة، وفقدت الوجوه قدراتها التعبيرية نتيجة الحقن بـ "البوتكس" وعمليات تجميل أخرى.

التجميل تاريخيا

بعض الجراحات التجميلية تعالج حالات مرضية، مثل عمليات الشفة المشقوقة والحنك المشقوق والتشوهات الناتجة عن الحروب، ومثل هذه العمليات ورد ذكرها في العديد من كتب الطب القديمة، وازداد انتشارها بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومع تطور الطب تجاوزت معالجة التشوهات إلى عمليات لتحسين وتجميل للرجال والنساء؛ ليتحول الأمر إلى هوس وإدمان.

عمليات التجميل.. الأسباب والنتائج

أسباب اللجوء إلى عمليات التجميل كثيرة، ولعل أبرزها التأثر بالمشاهير وشعور المتابع بالدونية نتيجة الفرق الشاسع بينه وبين هذا المشهور أو ذاك، أيضا الخوف من الشيخوخة. لذلك فإن الهوس بهذه العمليات جاء من مجتمعات تعتبر كبار السن شخصيات غير منتجة وقيمتهم الاجتماعية منخفضة، ولكن الغريب انتشار هذه العمليات في مجتمعاتنا التي تعلي قيمة كبار السن وتحافظ على كرامتهم ضمن ثقافة "بر الوالدين" الدينية والاجتماعية.

أما نتائج عمليات التجميل فقد تصل إلى الموت كما حدث مع المثلة المصرية سعاد نصر، وقد تسبب تشوهات كبيرة كما حدث مؤخرا مع الممثلة السورية وفاء سالم.

"جمال الأشياء موجود في العقل الذي يتأملها"- ديفيد هيوم

تفتتح غريتشن إي هندرسن دراستها "التاريخ الثقافي للقباحة" بفصل: "الجميل- القبيح: سـؤال ثـقـافـي"، لتخلص إلى أن معايير الجمال والقبح ليست موضوعية، أي أن هذه الصفات غير مخزنة في الشيء الموصوف، وإنما هي معايير ثقافية تختلف باختلاف المجتمعات.

تتجسد هذه الفكرة بطريقة فنية من خلال حلقة "عين الرائي" Eye Of The Beholde  من مسلسل الخيال العلمي  The Twilight Zone، حيث تبدأ الحلقة بامرأة في مشفى وضع على وجهها ضمادات، ويتجمهر حولها العديد من الأطباء والممرضات لكن الكاميرا لا تظهر وجوههم.

ويتبين لنا من خلال الحوار أن المرأة خضعت للعديد من عمليات التجميل ووصلت إلى الحد الذي يمنع قانون الولاية تجاوزه، وهي قلقة من فشل محاولتها الأخيرة، فقوانين الولاية تنفي الشخصيات ذات الوجوه القبيحة حتى لا يتأذى الناس بمشاهدتهم. ثم يظهر وجه المرأة بعد إزالة الضمادات لتبدو في غاية الجمال. إلا أن الطبيب يعلن فشل العملية، فتحاول الهرب من الكوادر الطبية ولكن دون جدوى.

وأخيراً، عندما تسلط الكاميرا على وجوه الكادر الطبي يتبين أن وجوههم مشوهة.

تختتم الحلقة برجل وسيم مكلف بنقل المريضة إلى المنفى، وعندما تسأله: لماذا وجوهنا قبيحة؟ يجيبها بأن القبح والجمال هما في عين الناظر أو الرائي، وبأنها لن تشعر بأنها قبيحة عندما تنتقل إلى المنفى الجديد لأن الجميع يشبهونها. أي أن الجمال يتجسد بصورة معيارية رسمتها ثقافة مجتمع من المجتمعات والانحراف عن هذه الصورة هو القبح.

المكتبة العربية وفقرها بكتب معايير الجمال العربي

تختلف معايير الجمال باختلاف البلدان والأعراق وعبر التاريخ تبدلت وتغيرت معايير الجمال وفقا لمتغيرات كثيرة. يمكننا أن نقف على تغيرات معايير الجمال الأوروبي مثلا من خلال كتاب تاريخ الـجـمـال: الجسد وفن التزيين من عصر النهضة الأوروبية إلى أيامنا، حيث يفصل الباحث معايير الجمال بدءاً من القرن السادس عشر إلى عام 2000.

وعندما نبحث عن دراسة أو بحث يرصد تغيرات معايير الجمال العربي، فغالباً لن نجد كتاباً بهذه الموسوعية على الرغم من أن دواوين الشعراء وكتب الأدب زاخرة بأوصاف الجمال، وحتى معايير القباحة من المنظور العربي لا نجدها في الكتب المتداولة على غرار دراسة التاريخ الثقافي للقباحة لـ "غريتشن. إي. هندرسن" التي ترصد العديد من الحقب الثقافية بهدف تشكيل مفاهيم القبح ثقافيا وتاريخيا وحتى بيولوجيا.

الوجه ينقل لنا الغضب والفرح وتعبيرات المشاعر المختلفة وتساهم اللقطات القريبة من إظهار هذه التفاصيل الدقيقة للوجه، ولكن يبدو أن هذه اللقطات بدأت تأتي بنتائج عكسية. فعمليات شدّ الوجه وحقنه بالبوتكس مثلا، جعلت الوجه مشلولا

الوعي بمعايير الجمال والقبح لدينا وفي تاريخنا، قد يقلل من النتائج الكارثية عند الانفتاح على العوالم الأخرى، ولعل أبرز هذه النتائج سيادة نماذج جمالية مستوردة ناتجة عن تبدلات ثقافية خاصة بمجتمعات أخرى، فلكل مجتمع معاييره الخاصة للجمال، فالعرب كانوا يعتبرون السمنة من علامات جمال المرأة، فوصفوا المرأة الجميلة بـ "خرساء الأساور" كناية أن امتلاء يديها يجعل الأساور لا تصطدم مع بعضها، لكنهم مع ثورة الاتصالات سرعان ما بدؤوا يتغنون بالمرأة النحيفة.

"ما هو أقبح جزء من جسدك؟ البعض يقول أنفك، البعض يقول أصابع قدميك، لكنّني أعتقد أنّه عقلك"- فرانك زابا

خضعت معايير الجمال لاقتصاد السوق من خلال عولمة عابرة للقارات تتحكم بها دول رأسمالية ذات إرث استعماري، سيطرت على جميع الأسواق بما فيها سوق الثقافة. وبما أن الجمال منتج ثقافي كما أسلفنا، فإن ثقافة التسليع وحّدت معايير الجمال من خلال ما يسمى الجمال الرقمي، حيث تعتمد بعض خوارزميات وسائل التواصل كإنستغرام وتك توك بتحديد معايير جمالية محددة وثابتة، وبذات الوقت تمنح المستخدمين فلاتر أو قوالب جاهزة أغلبها يجعل الوجوه غير معروفة عرقيا وبشفاه منتفخة وببشرة ناعمة ملساء، ويبدو أن هذه المعايير من الأدوات الناعمة التي تفرض على المجتمعات التي تعاني من اضطرابات هوية.

عمليات التجميل وفن التمثيل

تعتمد مهنة التمثيل على الوجه بشكل رئيسي لإيصال المشاعر من غضب وحزن وفرح ودهشة، فالوجه أهم جزء من جسد الممثل، هذه الأهمية جعلت الكاتبة "كاثي هاس" تُعنون الفصل الأول من كتابها "فن التمثيل السينمائي" بعبارة: "الاسترخاء وفن الوجه".

تقول هاس: "الوجه والطريقة التي يعمل بها، هما في غاية الأهمية بالنسبة للممثل السينمائي، إن الأمر يتجاوز مجرد مسألة المظهر، إنها علاقة عاطفية دائمة مثل علاقة الأم بطفلها، فإذا كنت تريد أن تكون ممثلاً سينمائيا فإنك يجب أن تتعلم أن تقبل ذاتك، وتتفاعل معها بحرية من خلال مـشـاعـرك، ويمكن رؤية هذا التفاعل من خلال تعبيرات عضلات وجهك، وعمل الممثل ينصب على محاولة إتقان هذا التفاعل، الذي يبدأ مع الذات ثم يمتد إلى الشخصية، والنص، والممثل الآخر...".

فالوجه ينقل لنا الغضب والفرح وتعبيرات المشاعر المختلفة وتساهم اللقطات القريبة من إظهار هذه التفاصيل الدقيقة للوجه، ولكن يبدو أن هذه اللقطات بدأت تأتي بنتائج عكسية. فعمليات شدّ الوجه وحقنه بالبوتكس مثلا، جعلت الوجه مشلولا، وفقد الممثل هذه القدرات التي يمنحه إياها الوجه الطبيعي الغني بالنهايات العصبية، فالبوتكس يشل تعبيرات الوجه ليصبح الممثل كروبوت آلي أو دمية محنطة.

ولعل لجوء بعض المخرجين إلى الوجوه الجديدة أو الناس العاديين الذين ليس لهم تجارب سابقة بالتمثيل كفيلم (ريش)، هو محاولة لإحياء مهنة التمثيل عبر تغذيتها بروح حقيقية، ووجوه طبيعية نابضة بالوجع أو بالفرح أو الألم، وفق ما يقتضيه الموقف الدرامي، وجوه تتغذى بالدم وليس بالبوتكس "سم البوتيولينيوم"  

خلاصة القول إن الممثل الذي يلجأ إلى عمليات التجميل ويدمن عليها لتحسين فرص ظهوره، غالبا ما يكون ممثلاً بدون تجربة ثقافية أو أدبية، وبدون قراءات في مجالات متعلقة بتخصصه المهني؛ إنه ممثل أجوف ثقافيا. وأمام هذا الفراغ المدوي لا يبقى لديه إلا الجسد، فسرعان ما تلجأ بعض الممثلات إلى إدمان عمليات التجميل، ويلجأ بعض الممثلين إلى بناء عضلات أجسادهم عبر التهام الهرمونات، وغالبا بتشجيع ودعم من شركات الإنتاج الخاضعة لاقتصاد السوق.