icon
التغطية الحية

عمر الشغري: تذكرني "لعبة الحبار" بالسنوات التي أمضيتها داخل سجني في سوريا

2021.11.13 | 11:10 دمشق

عمر الشغري: تذكرني "لعبة الحبار" بالسنوات التي أمضيتها داخل سجني في سوريا
عمر الشغري (إنترنت)
ترجمة وتحرير: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

شاهد كثير من الأشخاص الذين أعرفهم مسلسل "لعبة الحبار" الذي عرض على نتفليكس، والذي يدور حول قصة خيالية حزينة يشارك فيها لاعبون في ألعاب كورية للأطفال ولكنها تتخذ في المسلسل شكلاً سوريالياً حيث يصبح الموت العقوبة التي تنتظر الخاسر، إلى أن يبقى شخص واحد فقط على قيد الحياة.
رأى أصدقائي في مسلسل "لعبة الحبار" نوعاً من أفلام الرعب، كونه يعقب بشكل مريع على الفجوة ما بين الأغنياء والفقراء في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، وبالنسبة لهم كانت قصة المسلسل خيالية ومخيفة.
بيد أن هذه القصة أسرتني لأسباب عديدة، كونها ذكرتني بالسنوات الثلاث التي أمضيتها في السجون السورية، ولهذا كنت أشاهد المسلسل الذي يعبر عن تجارب أليمة جداً في معظم الأحيان حتى أتبين إن كان بوسع هذا المسلسل أن يساعدني على اكتشاف أي معنى لما عشته من تجربتي الأليمة.
إن المسلسل بكامله الذي يعرض تفاصيل عالم يقوم على وحشية قائمة على نزوات، جعلني أعيش انفعالات حادة، إلا أن الحلقة السادسة منه التي عنونت بـ"Gganbu" كانت الأقسى والأشد وطأة على نفسي، تلك الحلقة التي تضع أبطال القصة ضمن أصعب وأقسى الاختبارات التي تؤلب الأصدقاء والحلفاء ضد بعضهم بعضاً.
إذ عندما طلب من اللاعبين اختيار شركاء، اختاروا بشكل غريزي أعز إنسان على قلوبهم، من دون أن يدركوا أنهم سيعضون أيديهم ندامة على ذلك فيما بعد. وعندما تم الإعلان عن قوانين اللعبة، أدرك اللاعبون تلك الحقيقة المرة، حيث سيدخل الشريكان في منافسة ضد بعضهما، والذي سيخسر بينهما سيتم القضاء عليه.
داخل سجن صيدنايا سيئ الصيت في سوريا عشت النسخة الحقيقية من هذه الحلقة، حيث أتى أحد الحراس إلى الزنازين وطلب من صديقي جيهان أن يذكر اسم أعز صديق على قلبه من بين أصدقائه المقربين، فدهشت كيف لم يعطهم اسمي، وذلك لأني كنت صديقه هناك لفترة أطول من أي شخص آخر.
وهكذا ذكر جيهان اسم صديق آخر غير اسمي، فأعطاه الحارس مفكاً وطلب منه بصوت خفيض ما يلي: "استخدم هذا لتقتل صديقك وإلا فسيضطر هو لقتلك.. أمامك عشر دقائق لتقوم بذلك".
ثم أغلق الحارس الزنزانة ومضى بعيداً. وعلى الفور بدأ الصديق يتوسل لجيهان ويقول: "إن قتلتني فسيصبح ابني يتيماً".
بيد أن جيهان لم يجد بداً من ذلك، فقد كان يعرف بأن أحباء صديقه لا بد أن يحزنوا على موته، ومع اقتراب اللحظات الأخيرة الفاصلة، حسم جيهان أمره وقرر أن يقتل صديقه وأن يحمل ذنبه طوال حياته.. كانت تلك إحدى اللحظات المخيفة جداً التي عشتها في السجن، إذ رأيت أصدقائي وهم يقتل بعضهم بعضاً أمام عيني، وقد أعاد مسلسل "لعبة الحبار" عندما شاهدته كل تلك الذكريات إلى مخيلتي.
في نهاية الحلقة السادسة، تتطور الحبكة لتشمل شخصيتين نسائيتين، وهما ساي -بيوك وجي-ييونغ اللتين أعادتاني إلى لحظة أخرى عشتها فيما مضى، إذ في تلك الحلقة تقرر جي-ييونغ أن تضحي بحياتها حتى تفوز ساي-بيوك، لأنها تعتقد أن هنالك مستقبلاً وحياة أفضل تنتظر ساي-بيوك بعد تلك اللعبة، ولهذا تتركها لتفوز.
إن مشاهدتي لجي-ييونغ ذكرتني بابن خالتي بشير الذي أمضى أشهراً في السجن برفقتنا، لكنه لم يكن في موقع يسمح له باختيار التضحية بنفسه بشكل مباشر كما حدث مع جي-ييونغ، ولكني أؤمن بشكل جازم بأنه كان سيختار ذلك لو قيض له أن يختار، بيد أنه فعل الشيء نفسه بطريقة غير مباشرة، وذلك عبر منح الآخرين القوة التي تساعدهم على البقاء على قيد الحياة، إذ بالرغم من أنه كان يتضور جوعاً مثل كل شخص بيننا، فإنه كان يشارك طعامه مع من كانوا أضعف منه. وتماماً كما فعلت جي-ييونغ، نجح ابن خالتي في رسم الابتسامة على وجوه الجميع بالرغم من الأهوال التي عاشها في السجن، إذ أتذكره دوماً كيف كان يجلس وقد صالب ذراعيه تحت ذقنه، وأخذ يتبادل الابتسامات مع كل السجناء، فقد كان يستعين بابتسامته لمساعدتنا على التمسك بإنسانيتنا وآدميتنا.
كان يحدثني على الدوام عن المستقبل المشرق الذي ينتظرني خارج السجن، ويقوم بكل ما بوسعه ليقدم لي سبباً منطقياً يدفعني لمواصلة العيش. إلا أن بشيراً فارق الحياة وهو بين ذراعي في الثالث من آذار من عام 2014، فقد نظر إلي وهو يحتضر وقال: "مية وردة"، التي كان يستخدمها للتعبير عن المحبة الصافية والتسامح. لقد أصبحت هاتان الكلمتان بالنسبة لي بمنزلة مرادف للطيبة والإيجابية حتى عندما يعيش المرء في كنف شر مطلق.
لم أكن أرى ساي -بيوك وجي- ييونغ وأنا أتابع ذلك المشهد في مسلسل "لعبة الحبار"، بل كنت أراني أنا وبشير ساعة احتضاره بين ذراعي.
في مسلسل "لعبة الحبار" يخاطر ضابط الشرطة المحترم بكل شيء من أجل شقيقه المفقود، وذلك حتى ينهي آلة القتل هذه. بيد أنه لا يمكن لأحد أن يصدق بأن هنالك شخصيات من لحم ودم تشبهه في واقعنا، مثل المنشق المعروف باسم "قيصر" الذي عمل لدى إحدى السجون التابعة للنظام السوري ونجح في نهاية المطاف بتهريب آلاف الصور لضحايا التعذيب هناك.
واليوم، تستمر "لعبة حبار" نظام الأسد عبر إفلاته من العقاب، مع تقزيم مستوى السادية والإجرام الذي رأيناه في هذا المسلسل الذي يدور حول شخصيات ثارت ضد المعاملة اللاإنسانية التي تعرضوا لها، وقد يبث ذلك شيئاً من العزاء في نفوس المشاهدين، الذين لابد وأن يتساءلوا كيف يمكن لهذه الوحشية أن تمر دون عقاب؟!
ومع ذلك، هناك في حياتنا الواقعة شخصيات كثيرة لا تجد غضاضة أبداً في التطبيع مع نظام الأسد المسؤول عن تعذيب وقتل أعداد هائلة من الناس، وهنا لا يسعني إلا أن أقول بإن الحياة أغرب من الخيال في بعض الأحيان!

 

/المصدر: واشنطن بوست- بقلم عمر الشغري/