على مذبح الفوضى السورية..

2022.07.06 | 07:05 دمشق

على مذبح الفوضى السورية..
+A
حجم الخط
-A

سئم السوريون عبثية صرخاتهم ونداءاتهم، لعالم ألِف شكل الجريمة، وشرعن بقاء عرّابها، وصفق لاستمرارها بجلسات شكلية لا تقدم ولا تؤخر، وإدانات لم تخرج من فراغ قاعات المؤتمرات الدوليّة. واليوم تضجُّ ذاكرتهم بمجازر خلّفها وريث سلطة مستبدّة، يلتحف بأغطية العلمانية والديمقراطية، وقيم الفكر الغربي المُنفتح، التي جعل منها "خرّيج الجامعات البريطانية"، علامة ترويجيّة لسلطة حاكمة بالحديد والنار، قدّمت أنموذجاً معاصراً لسفّاحي القرون الوسطى والحديثة، بتنوّع أشكال الجريمة المرتكبة على مذبح تسمّيه الجغرافية "سوريا"، ولبشرٍ تتناقلهم الأخبار باسم "الضحايا السوريين" ترتّبهم الأرقام والإحصاءات.

لنكن أكثر مباشرة.. لم تكن صورة ذاك المسنّ السوري، الذي دفع دماً قبل أن يدفع مالاً للحصول على الخبز، هي الوحيدة التي تمّ تداولها بكثرة بين السوريين مع كلمات مثل: لقمة مغمسة بالدم، بالقهر، بالإذلال، بالوحوش البشرية. فثمة في الواقع السوري ما هو ألعن. إذ من الطبيعي أن تمر عليك أخبار من قبيل: "سيدة تلجأ إلى بيع بويضاتها بسبب ضيق الحال والحاجة لأموالٍ لمساعدة شقيقتها في رحلة العلاج من السرطان.. كشف المسؤول العلمي في مجلس إدارة الجمعية العلمية السورية لجراحة المسالك البولية، عن ورود استفسارات كثيرة إليه من شبان يرغبون ببيع الخصية، نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة وانعكاسات الأزمة، على حدّ تعبيره.. زوجان سوريان يبيعان كليتين اثنتين، الأولى لسداد الديون والثانية لشراء منزل.. طفلة رضيعة مرمية في أحد الأزقة المهجورة تأكل الفئران وجهها... إلخ".

في مقابل هذه الأوضاع المأساوية ثمة "نهفات" لا يتوانى مسؤولو النظام السوري عن تصديرها، وبصفاقة مستفزة، عند مطلع كلّ قهر. على سبيل الذكر: رئيس الحكومة يدلي بتصريحه "الخارج عن الطبيعة" الذي أكد فيه أن "الحكومة تدعم المواطن بطرق أخرى غير زيادة الرواتب دون أن (يشعر)!".. وزير التربية يبخّ سمّه: "يلي ما عم يكفيه راتبه يستقيل"... "الموظف الذي لا يكفيه راتبه لآخر الشهر، لا يحقّ له أن يسحب قرضا"، وهو تصريح حاكم مصرف سوريا المركزي في وقتٍ سابق.. القاضي الشرعي الأول في دمشق الذي لم نكن نسمع به إلا حين التماس هلال الشهر الكريم، خرج بتصريحه "العطوف" على النساء: "على الشباب الزواج مرة ثانية للقضاء على مشكلة العنوسة"، بينما امتلأ الموقع الأزرق بالصفير والترحيب بالفكرة من قبل الشباب الذين لا يملكون أن يتزوجوا للمرة الأولى فكيف الحال بالثانية.

أحلام على شكل كوابيس، طغت على "صبحيات" النساء، وجلسات الرجال في المقاهي وعلى أرصفة المحال. في عيونهم يأس من انتظار فَرجٍ تأخر كثيراً

وعليه تبدو نهارات المدن السورية اليوم شبيهة بأحوالها. المدن التي تجاهد كي ترتب كلّ هذه الفوضى بعد حرب طاحنة. أحزانها المنعكسة على وجوه قاطنيها، نظراتهم الشاردة، وحديثهم مع أنفسهم يجعلك تدرك كيف أرخت الحرب بظلالها على يومياتهم، بعدما باتوا في سباق محموم لتأمين متطلبات حياتهم، مذ غدت بديهيات الحياة أحلاماً بالنسبة لهم. أحلام على شكل كوابيس، طغت على "صبحيات" النساء، وجلسات الرجال في المقاهي وعلى أرصفة المحال. في عيونهم يأس من انتظار فَرجٍ تأخر كثيراً، فالجري خلف لقمة العيش بات ماراثوناً ليس بإمكان الجميع استكماله.

"الموت السوري خلٌّ وفيّ وظلٌّ بهيّ". في المقابل الدنيا ربيع والجو بديع، ومعرض الزهور مستمر والعصافير تزقزق داخل تلفاز النظام السوري، واسألوا مذيعاته إن كنتم لا تصدقون. فلا يهمهنَّ على الإطلاق ذاك التقرير البريطاني الذي أثار غضب السوريين لتصنيفه العاصمة السورية أسوأ مدن العالم معيشة لعام 2022. يسعينَ بلهاثٍ مسعور لتبرئة مجرمٍ حوّل "مدينة الحضارة وعاصمة الأمويين" بعد نصف قرن إلى أسوأ المدن. متغاضين عن حقيقةِ أنّ التصنيف الذي أصدرته وحدة المعلومات الاقتصادية في مجموعة (إيكونوميست) استند إلى أكثر من ثلاثين عاملاً، مقسّماً إلى ست فئات هي: الاستقرار والرعاية الصحية والثقافة والبيئة والتعليم والبنية التحتية. بناء عليه تذيّلت دمشق قائمة ضمت (172) مدينة حول العالم.  

هذا، بالضرورة، يأخذنا باتجاه تناول فيلم "سيد الفوضى" الذي بُثّ عام 2021، والذي عرض المعادلة التي أقرها رأس النظام السوري، "إما أنا أو الفوضى"، راسماً ملامح تحول بشار الأسد من شخص كان الغرب يعوّل عليه لتحديث النظام السوري وإصلاحه من الداخل، إلى ديكتاتور وسفاح يقتل شعبه من أجل البقاء في السلطة، بفضل الدعم الإيراني والتدخل الروسي.

ولعلّ أبرز التساؤلات التي طرحها الفيلم: في ظلّ الفوضى السياسية التي يُعتبر الأسد سيدها، هل الأخير فعلاً واعٍ بما يقوم به، "بمعنى تفنّنه المدهش في إدارة الخراب السوري"، أم الأمر تكتيكات يحاول أن يُبقي عبرها سوريا دوماً على حافة الانهيار، في تطبيق لشعاره الشهير المذكور آنفا. في الوقت ذاته يؤكد الفيلم على صورة الأسد المهزوزة. فالفيلم يُظهر، مثلاً، بثينة شعبان، التي تحاول أن تبرر مواقف وسياسة الأسد "السوري" الذي لا يشبه الأوروبيين، بالرغم من أنه درس في بريطانيا، وكأنها تنفي الصورة الاستشراقية التي يحاول الغرب إلصاقها به، فهو سوري، ويعمل لـ"صالح الشعب السوري"، مع ذلك لا حديث أبداً عن أسلوب عمله السياسي والاقتصادي.

المثير للاهتمام، أنه في كلّ الكتب والأفلام التي تتناول سيرة الأسد، نقرأ عن حكايات غريبة، كأن يغضب الأخير بسبب منشور على فيسبوك، أو يشعر بالإهانة حين يلقنه الروس درساً، وذلك عبر فضح هويته بوصفه اشترى لوحةً لزوجته بقيمة ثلاثين مليون دولار.. وكأن الأسد، يرى العالم من نافذة وسائل التواصل الاجتماعي لا من دهاليز الواقع السياسي. يطلّ في كل مرّة بخطابٍ من خطاباته ليستعرض فيها ترّهاته وفذلكاته التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والتي لم تعد تنطلي إلا على عشاقه المغيبين فكرياً، والتابعين بانتمائهم إلى درجة يصعب عليهم فيها تحكيم أقل درجات المنطق، والوعي بالمفردات البديهية التي يجب لها أن تحكم العلاقة بين الشعب والحاكم في أيّ من الدول المعاصرة.

من يراقب تطورات المشهد السوري منذ الانقلاب البعثي الشهير وحتى انتفاضة 2011، يجد أنّ خطة تدمير الدولة والمجتمع كانت قائمة، وفي شقها الاقتصادي تحديداً، بقصد تحويل سوريا إلى مزرعة للحاكم وحاشيته

ما يلفت الانتباه بشكل كبير هو محاولة نظام الأسد التركيز دائماً على التماهي بينه وبين الدولة، والتأكيد في كلّ المحافل الدولية على أنه الدولة السورية والمطالبة بمخاطبته على هذا الأساس. المؤسف أنّ طرق الحل في سوريا لم تعد سالكة، ليست لأنها ممتلئة بمطبات "قيصر" وشروطه التعجيزية، بل لأن النكسات على مشروعها تتوالى، بعدما فُتحت صفحة إعادة تعويم الأسد، في وقتٍ كثر فيه النقاش لإعادة النظام السوري إلى مقعده في الجامعة العربية، ودعوته إلى القمة المقبلة في الجزائر، التي تقود حراكاً حثيثاً من أجل حضور دمشق في القمة المقرر انعقادها على أراضيها.

بطبيعة الحال من يراقب تطورات المشهد السوري منذ الانقلاب البعثي الشهير وحتى انتفاضة 2011، يجد أنّ خطة تدمير الدولة والمجتمع كانت قائمة، وفي شقها الاقتصادي تحديداً، بقصد تحويل سوريا إلى مزرعة للحاكم وحاشيته، فيها تكون الفوضى منظمة وليست عشوائية. وإذا ما هُدّد النظام بثورة شعبية، فعلى الأخير أن يسارع لنسفِ الدولة السورية بحيث تكون بحاجة لعقود حتى تستطيع التعافي. ويكفي النظر في التدمير الذي طال البلاد والعباد، لتظهر عمق الكارثة التي تعرضت لها سوريا الدولة، حيث تقدر خسائر الاقتصاد السوري بنحو ترليون دولار، ونحو عشرين عاماً، على الأقل، حتى يعود الاقتصاد لمستويات 2010!.