عجز النظام وانكفاء الفئة المؤيدة

2022.10.09 | 06:31 دمشق

عجز النظام وانكفاء الفئة المؤيدة
+A
حجم الخط
-A

لا يندر في الأشهر الماضية أن يفتح المرء حسابه في الفيسبوك ليجد طلب صداقة من زميل قديم ارتكس إلى وعيه الأهلي، ووقف في مواجهة صوت الحرية قبل أحد عشر عاما، مثلما لا يندر أيضا أن تصل أحدنا رسالة اطمئنان من أحد الأصدقاء الذين اختاروا الرمادية أو الوقوف إلى جانب النظام خوفا أو قناعة.

تفتح حساب زميلك القديم الذي كان ينضح بدعوات الإبادة والقتل قبل سنوات، فتكتشف أنه أبقى على المنشورات الأدبية والثقافية فقط، وحذف كل ما له صلة بالسياسة ولا سيما دعواته لقتل مواطني بلده المختلفين عنه في موقفه السياسي. الفيسبوك للسوريين هو مدونة لتاريخ الوعي الشخصي من جهة، وتاريخ الأحداث المفصلية العامة من جهة ثانية. وقيام شخص مؤيد مثلا بمحو تاريخه على الفيسبوك أو إخفائه دلالة على الرغبة في التخلص منه، وهي ظاهرة تشير إلى اليأس الذي أصاب جمهور المؤيدين لا من جراء عجز النظام عن تحقيق وعوده، وإنما من إمكانية استمراره، وهو تحول كان يقع ضمن إطار غير المفكر به قبل ثلاث سنوات.

منذ أن توقفت الأعمال العسكرية الكبرى في بداية شهر آذار عام 2020م، بدأ النظام يواجه جمهور مؤيديه الذين وقفوا معه في حربه على المجتمع السوري، أو ما بات يطلق عليها المؤيدون في اصطلاح محايد سنوات "الأزمة"، وشرع هؤلاء الذين ضحوا في سنوات "الأزمة" بالمطالبة بتحسين ظروفهم المعاشية وتوفير الخدمات بعد دحر "الإرهابيين" إلى شريط ضيق على الحدود التركية، بحيث لم يعودوا يشكلون خطرا على النظام.

المتابع لوسائل التواصل الاجتماعي يكتشف الخفوت التدريجي لورود اصطلاح “الإرهابيين" في أصوات هؤلاء، ليحضر بدلا منه الحديث عن المسؤولين الفاسدين

هكذا انحرفت أصوات المؤيدين المرتفعة من الدعوة لإبادة مناطق الثورة والتفاخر باستعمال البراميل المتفجرة ضد المناطق المدنية، والتهليل لاستعمال الأسلحة الكيماوية، والسخرية من "الإرهابيين" عبر الحديث عن "الباصات الخضراء" التي ستنقلهم إلى مناطق الشمال-انحرفت أصوات المؤيدين باتجاه "دواعش الداخل"، بعد أن تكفل الروس والإيرانيون بهزيمة "دواعش الخارج". والمتابع لوسائل التواصل الاجتماعي يكتشف الخفوت التدريجي لورود اصطلاح “الإرهابيين" في أصوات هؤلاء، ليحضر بدلا منه الحديث عن المسؤولين الفاسدين الذين يكملون مهمة "دواعش الخارج". وبعيدا من التلميح الطائفي الذي يتخذ صيغة التعمية التي يفضحها إحلال كلمة الداخل بدلا من الخارج والإبقاء على الكلمة المفتاحية: الدواعش، فإن معضلة النظام لم تكن في دواعش الداخل ولا في دواعش الخارج، وهو ما لم يكن المؤيدون يدركونه.

واجه النظام هذه المطالب بالوعود، مؤملا نفسه وجمهوره بقرب الانفتاح العربي عليه، وبأن الدول الغربية ستطبع معه، وربما تكوّن لديه هذا الانطباع من الإشارات الدبلوماسية والتصريحات التي كانت تشي بمباركة "انتصار النظام"، ويجوز أن هذه القناعة تشكّلت لدى النظام من خلال التعاون الاستخباراتي الذي يجيد النظام العمل عليه، وخصوصا أنه كان يعتقد أن تخليص العالم من هؤلاء "الإرهابيين" ودحرهم سيجعل العالم ممتنا له، شاكرا له عمله، وسيأتي العالم راكعا بين يديه مهنئا إياه بالنصر، وهو في هذا يتناسى مثلا شعبيا شهيرا يقول: "إن من يدفعك للطلاق لا يعينك على النفقة".

مرت سنتان تقريبا ارتفع فيهما صوت إعلاميي النظام ومؤيديه بالنقد، ومطالبة الحكومة بتوفير الخدمات، ولكن العالم لم يأت ليطلب من النظام الصفح والمغفرة على سوء تقديره في الاشتراك بالمؤامرة الكونية ضد نظام تقدمي يختلف عن أولئك "الإرهابيين" الذين دحرهم. أمام هذا الواقع ظهر إفلاس النظام وعجزه عن الوفاء بوعوده وتوفير ما يطلب جمهوره منه. ولهذا شرع منذ أشهر تقريبا بمرحلة جديدة هي مرحلة التطبيع مع الوضع القائم واعتباره وضعا دائما على الناس الذي يقيمون تحت سلطته أن يتكيفوا معه. وكان النظام واضحا في هذا من خلال تصريحات مسؤوليه في أن الخدمات لن تتحسن ما دامت مناطق شرق الفرات تحت سيطرة القوات الأميركية.

هذا التطبيع مع الوضع القائم أتبعه النظام بأسلوب آخر، هو حرف الأنظار عن الواقع المأساوي والتغطية على عجزه. فعلى خلاف ما يقوله جمهور الثورة أو جزء منه من أن النظام لا يعنيه مؤيدوه، فإن صورته في وعي مؤيديه هي ما تعنيه قبل أي شيء آخر، فلا شيء أخطر على النظام من انكسار جبروته وقوته في أعينهم. اتخذ هذا الأسلوب الجديد أشكالا متعددة، منها التعالي على الواقع وذلك بإقامة حفلات لمطربين عرب في دمشق، والحملات الإعلامية التي تقوم بها وسائل إعلام النظام، والتي تصحب تلك الحفلات وتروج لها، تعطي إشارة واضحة عن رغبة النظام بترميم صورته في أذهان مؤيديه وجمهوره، لأن هذه الحملات لا تتوجه إلى الخارج الذي لا يكترث لهذه الحفلات، إذ لم يعد الوضع السوري مدرجا على البنود الأولى من أولويات أكثر دول العالم. لسان حال النظام: أنا ما زلت قادرا على استدعاء المطربين كما كنت في السابق.

تشير التسريبات إلى تراجع أعداد المتقدمين الجدد إلى الكليات العسكرية التي لم يصل عدد المتقدمين إليها في هذه السنة نصف العدد المقرر

أمام هذا الواقع انكفأت الفئة المؤيدة، لأنها وصلت إلى قناعة تامة بعجز النظام عن تحسين شروط حياتها، وانحداره إلى مصيره المحتوم، وهذه الفئة في الوقت نفسه لن تتمكن من توجيه النقد لرأس النظام، لأن ذلك يعني أن ما قالته الثورة قبل أكثر من أحد عشر عاما كان صحيحا. فعلى النقيض مما كنا نراه في السنوات الماضية من حملات تطول المسؤولين الفاسدين في المؤسسات الخدمية ولا سيما في قطاعي الكهرباء والماء، فقد اختفت تلك الأصوات العالية التي كانت تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، حتى محافظ حمص لم يعد يتعرض للنقد، ومحافظ حمص هنا مثال على الموظف البيروقراطي الذي تظل صلاحياته محدودة مهما علا شأنه في جهاز الدولة الخاضع كليا لسلطة أجهزة النظام الصلبة. وحتى هذه الأجهزة الصلبة أصابها الوهن ولم تعد صورتها في مخيلة المؤيدين كما كانت في السابق. فعلى سبيل المثال، تشير التسريبات إلى تراجع أعداد المتقدمين الجدد إلى الكليات العسكرية التي لم يصل عدد المتقدمين إليها في هذه السنة نصف العدد المقرر، فآثرت قيادة جيش النظام تمديد طلبات الالتحاق بها، على الرغم من أن هذه الكليات مقصورة على مناطق معينة تقريبا، وعلى فئة أو فئات محددة، وعلى الرغم أيضا أن القبول فيها كان يحتاج إلى واسطة حتى في أشد أوقات الصراع حدة ودموية في السنوات الماضية.

يموت النظام في عيون مؤيديه وقلوبهم لا كرها به ولكن لأنه أصبح عاجزا عن أداء أدواره ولاسيما دوره في توزيع الخدمات، ناهيك طبعا عن إقرارهم الضمني بوفاته سريريا. لن ينفع المؤيدين والرماديين والقتلة محو تاريخهم الفيسبوكي في مواجهة المرحلة القادمة، فمن نعم الله أن البشر لا يمتلكون ذاكرة سمك.