icon
التغطية الحية

عالم جبران خليل جبران.. من جنون الرؤيا إلى (المختلف)

2022.04.23 | 09:27 دمشق

jbran-_tlfzywn_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليس بعيداً عن الحق أن نصف جبران خليل جبران بأنه ممن ملأ الدنيا وشغل الناس. حيث لا يستطيع قارئ تاريخ الأدب العربي ودارسه إلا أن يقف مطوّلاً أمام نتاج جبران الإبداعي. كما لا يمكن لمدّعي القراءة والمطالعة إلا أن يمرّ في مرحلة من مراحل حياته بالإبداع الجبراني.

ومن المفيد لإدراك أهمية جبران خليل جبران وما مثله في الذاكرة الإبداعية المعاصرة العربية أن نأخذ هذا النتاج الجبراني من زاوية واسعةٍ تتيح مقاربة التجربة الجبرانية من خلال وضعها في سياق التأسيس للحداثة في الشعر والكتابة العربية بشكل عام. وهذا يتوفر عندما نحسم مسالة ضرورة استقراء الحداثة عبر تاريخيتها واشتراطاتها المختلفة والظروف المؤثرة في ولادتها أو الإشارة إليها حتى اللحظة التي نضجت فيها واكتملت نظرياً. بهذا السياق لم يعد مجهولاً الدور الريادي الذي استطاعت تجربة جبران أن تتصدى للقيام به، وذلك استنادا إلى عدد كبير من محدّدات الحداثة ودروسها.

وإذا اعتبرنا – على ضوء ما سبق – أن مفهوم النبوة في الشعر الحديث الذي ساد إبان مرحلة ما من مراحل تبلور الحداثة، شكّل مدخلاً مهمّا من مداخل انتماء الشاعر الحديث في ذلك الحين إلى ملكوت الحداثة، فإننا سنرى في تجربة جبران بكل جلاء ودون أي لبس تلك الرغبة المسنودة بوعي مبكر في تقديم لغة قائمة في أساس خطابها على تمثّل الدور النبوي للشاعر. وذلك لم يكن من خلال كتابه (النبي) أو (حديقة النبي) بل فيما هو أعمق من ذلك: أقصد في اللغة النبوية التي كانت تشكل عماد التعبير عن تجربته في شتى أصناف الكتابة (حتى في نتاجه باللغة الإنكليزية، الأمر الذي يتوضّح حتى ونحن نقرؤها مترجمةً). كما يتوضح ذلك أيضاً في تلك الآفاق العميقة الخاصة بمظاهر الروح والذات المليئة بها كتابته والتي دفعت اللغة إلى أن تستغل تقنيات لغة الإشارة والرموز أو طريقة بناء الجملة العربية نافخا فيها من روح الخطاب النبوي. سواء في نصه القصصي أو الشعري النثري أو في أمثاله وقصصه القصيرة جدا وفي تأملاته الفلسفية (وكلنا نعرف مدى امتزاج روح اللغة الجبرانية باللغة الإنجيلية في أبهى أبعادها ومجازاتها).

 

صورة نادرة لجبران شابّا.jpg
صورة نادرة لجبران شابّا

 

ولكن جبران الذي يقول في (دمعة وابتسامة): "جئتُ لأقول كلمة وسأقولها. وإذا أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقوله الغد، فالغد لا يترك سرا مكنونا في كتاب الأبدية"، لم يكن ليتوهم كحالة نفسية أنه ذلك النبي وإنما كان ذلك إمعاناً منه بالإيمان بالدور الحتمي للمبدع الذي سيقوم برسالته (الكلمة) الآن أو في الغد على يد أحد قادم فالزمن القادم سيكشف كل حجاب في مسار الأبدية. لم يكن جبران مريضا بأنه نبيّ سماوي (وهذا أمر لا نقاش فيه بالنسبة لأي مبدع) ولم يكن يطمح في تخيل علاقة مريضة مع لاهوت غيبيّ سماويّ، بل إنه نبي يتجه بخطابه الإبداعي إلى بني قومه بطموحهم ومعاناتهم (وإن غلّف لغته بالنبوية)، أي أنه مبدع يبشر بين البشر بفردوس جميل يخصّ حياتهم الراهنة المحسوسة. لذلك فجبران يولد في قلب البشر ولا يتعالى بخطابه النبوي على البشر مهما انتقدَهم ورفضهم واختلف معهم وعادى بعض فئاتهم فذلك كله من باب تنبيه البشر إلى الدور الجماليّ الخلاق المنتظر أن يقوموا به. وهو يستلهم من بني قومه رغبة تحقيق مشروعه فوق الأرض لا في الغيب. لهذا كانت تجربته قائمة على تداخل عنصري (الرؤية والرؤيا) إلى حدّ التوحيد بينهما. ويبقى في الحالتين أن هناك (رؤيا جبرانية خاصةً). وواضحٌ لكل مهتمّ ما تعنيه الرؤيا من مكوّن بنيوي أساسيّ في مفهوم الحداثة بصورة عامّة. وجبران ذو رؤيا تنتمي إلى نبضِ الحياةِ والتّاريخِ ولا تفارقهما. وهو يدرك جيدا وبوضوح ما تعنيه العين الثّالثة (أو ما يمكن أن يكون معادلا للحاسة السادسة) إذ يرى أنه هي (تلك الرؤيا، تلك البصيرةُ، ذلك التفهّم الخاصّ للأشياء).

ويمكن أن نضع (جبران رائياً) جنباً إلى جنبٍ مع عدد من الحداثييّن، كلاًّ من زاوية خصوصية تجربته، والذين ولدت على أيديهم ظاهرة ما عرف بشعر الرؤيا، وكان جبران سابقاً لهم، وليس غريباً أنه كان يحس بأنه سابق للآخرين وهذا ما يتضمنه من معنى اختياره لعنوان أحد كتبه (السابق).

والرؤيا لا تختصّ بجانب جزئي من الوجود، بل تتداخلُ الرؤيا مع جدل الوجود بما يعنيه ذلك من حتميّةِ التعامل مع تناقضاته التي من المؤكد أن (عقل المبدع) قد يصاب بالتشوش أمامها. إضافة إلى تشويش الحواس واضطرابها. لهذا نادرا ما نرى مبدعا حقيقياً يعبر عن (رؤيا مطابقة لتفكير الناس)! فهذا لا ينسجم مع مقتضى اللحظة الإبداعية التي تأخذ المبدع إلى فسحة من الجنون تتيح له هامشا من حريةٍ واندياح.

 

من لوحات جبران.jpg
من لوحات جبران

 

بمعنى آخر إن العقل محدود – بالنسبة لجبران كمبدعٍ – أمام فعل الخلق، وكان طبيعيا في منطق الإبداع القائم على اللامنطق أن يكتشف جبران بكل بساطة كم جميلٌ أن يسلّم زمام تجربته ولغتها التي تصوغها ورؤاه إلى سلطة الجنون. والجنون في الإبداع في هذه الحالة بكل تأكيدٍ لا يشكل مادةً للتشخيص كحالة مرضية على المستوى السيكولوجي. إن الجنون الإبداعي موقف مكمّل لسلطة العقل. ولا يمكن بحال من الأحوال أن ينفرد العقل ويستأثر بطقس الإبداع، لأن هذا يعني موت الإبداع ببساطة... تجربة جبران (المجنون) عنت فيما عنته أن المبدع الحرّ لا يقبل أن يستسلم لأحادية العقل وتكوينه الواعي. ومن هنا نفهم ذلك الشغف الجبراني بتحطيم المفهومات السائدة والأفكار الثابتة، وتخريب قانون الأشياء عندما يكون هذا القانون من اختراع العقل.

(المجنون) الجبرانيّ معادلٌ وموازٍ لـ (الرائي) الذي يتجاوز المرئيات وطريقة التعامل الحسي معها لاكتشافها عبر حواس غير مرئية. والحواس البديلة – إذا صحت التسمية – قد تأخذ معنى (اللاّحواس) التي تساعد على تحقيق وظيفة السفر في البعيد والقصي والخفيّ واللامعروف... وهذا كله دفع جبران ليصف المجنون بأنه (بعيد ومختلفٌ). والبعد والاختلاف كما هو واضح عنصران من العناصر الأساسية في تحديد مفهوم الإبداع. فإذا قلنا إن المجنون مختلف وبعيد، فكأننا نقول في الوقت نفسه إن الإبداع مختلف وبعيدّ!. وهاتان الحالتان/ الوصفان/ الميزتان، تستدعيان عددا موازياً من الصفات التي اشتغل جبران على الكتابة ضمنها وفي تأثيرها وتجلّى في أفقها. أعني صفات (السّابق والتائه...) وما يدخل في طبيعتهما. حيث ما من شكّ في أن الإبداع سابق لعصره ولنفسه ولما هو سائد من يقينيات ومسلّمات جامدة. المبدع لا يتعامل مع اليقين لأنه أصلا اختار نوعا من التعامل مع الواقع لا يساعده اليقين. اختار شكلا من التيه والشرود خلف المجهول.

جبران في ثورته على الواقع واللغة معاً كان منسجماً مع طموحه بخلق إبداعي مختلفٍ يريد أن يرى اللغة في حركيتها لا ثباتها. وهو لا يؤمن بقداستها الممنوحة لها من خارج بنيتها الحيوية

جبران (المبدع – المجنون – الرائي – السابق) سيكون بسبب كل هذا على علاقة مع اللغة مختلفة. تلك بديهية طالما أنه يتمتع بكل هذه الصفات التي ستأخذه إلى فرادة وتمايز واستثناء العلاقة مع اللغة، كمشروع تعبير فني عن مشروع رؤيا وتيه وريادة وسبق... لا يمكن لجبران أن ينتج خطابه الموصوف بتلك الصفات بلغة ميتة كما كانت اللغة المهيمنة في عصره وبيئته (ولنتذكر كم انفرد جبران بهذه الميزة في عصر سمي بشيء من المبالغة عصر النهضة بينما كانت اللغة بشكل عام لا تنهض بل تقلّد وتسيرُ على نهج الأقدمين). ومقالته (مستقبل اللغة العربية) أشهر من أن نعيد استقراءها في عجالة ولكن لنقرأ منها هذه العبارة:

"الشاعر أبو اللغة وأمها تسير حيثما يسير وتربض أينما يربض وإذا ما قضى جلست على قبره باكية منتحبة حتى يمرّ بها شاعر آخر ويأخذ بيدها. وإذا كان الشاعر أبا اللغة وأمّها فالمقلّد ناسج كفنها وحافرُ قبرها".

لقد كان جبران يعني فيما يقوله – بوعي أو بغير وعي منه، فذلك لا يهم – أنه هو كمبدع الخالق الحقيقي للغة ومُحْيي رميم عظامها وذلك بأن يطورها ولا يحرق لها البخور في معبد التاريخ ومتحف الذكريات. لغة جبران كانت منحازة بكليتها إلى جانب الحياة، لتناسب بنية مشروعه المنحاز إلى بعث الحياة، مشروع الريادة والتحديث. فهو إذا كان متمرداً على موت المجتمع والفكر فهو في الوقت نفسه متمرد على موت اللغة وكسادها.ولأن اللغة اكتسبت قداسات عبر تمجيد وتأطير دلالتها وحصرها في وظيفة قول الواقع كما هو في جموده وسكونيته، فلا بدّ أن يعني هذا ثورةً على واقع لا ينتج لغةً بديلة لأنه واقع جثة أصلاً. ومن هنا اقترن تجديد الواقع بتجديد اللغة عند جبران. وهذه العلاقة التاريخية بين بعث اللغة وبعث الواقع هي مهمة من مهام الحداثة، وبذلك يكون جبران (رائداً من روّاد الحداثة) بل وكان في كثير من مواقفه ونتاجه أسبق من كثيرين منهم، الذين عبروا بلغة تقليدية وميتة عن عالم معاصر، فبدا هذا العالم أكثر مواتا في لغتهم مما هو عليه في الواقع.

جبران في ثورته على الواقع واللغة معاً كان منسجماً مع طموحه بخلق إبداعي مختلفٍ يريد أن يرى اللغة في حركيتها لا ثباتها. وهو لا يؤمن بقداستها الممنوحة لها من خارج بنيتها الحيوية. لأن دلالة القداسة التي أسبغت على اللغة سرّعت في تجميد طاقات هذه اللغة عبر تاريخها. لذلك كان جبران عندما يعبّر، يقلب النظام التقليدي الذي يحكم العلاقة بين المفردات والواقع، أو بين الذهن والصورة المتخيلة، من أجل الوصول إلى نبض الأشياء ولغتها الحقيقية دون قشور وأقنعة. لقد لازم هاجس تجديد اللغة وأدوات التعبير جبران في جميع ما كتب من نثر وشعر وقصة وخاطرة وتأملات أمثال وروايات متخيلة وأناشيد فرح وصلوات... إلخ في دلالة واضحة على أن المسألة لم تكن عنده مجرد دعوة من قبيل الترف. بل كان مشروعه يسعى حثيثاً لتحقيق المسألة حسب طاقاته وما كانت طاقاته عادية. حتى أن جبران في لمحةٍ ريادية أخرى – وما أكثر لمحاته الريادية – وصل به الإحساس بمأزق اللغة إلى أن يحس بمأزق (التجنيس الأدبي). الأمر الذي بدا واضحاً فيما يمكن تسميته دون خوف وحذر بالتجريب الأدبي المحموم الذي كان يمارسه. لقد أنتج جبران نصوصا كثيرة لا يمكن ردّها إلى جنس أدبي ما معروف أو يمكن أن نقيسها عليه. ولم يكن ذلك بمستغرب عليه، وهو الذي يتمتع بروح المغامرة والبحث عن أشكال تعبير بكر، لم يسبق وأن مورست من قبل. إن كثيرا من كتاباته تقف على مساحة تتجاور فيها تقنيات القصة القصيرة والخاطرة والمقالة والشعر والنثر والواقع والمجاز والأسطورة واختراع الأسطورة الأخرى... وربما كان من أسباب إقبال القراء بغزارة على اقتناء كتب جبران وقراءته وحفظ مقطوعات له والتمثل بها في مواقف كثيرة يتعرضون لها، أقول ربما كان من أسباب ذلك أنها كتابات تلبي حاجة القارئ حتى غير المختصّ في قراءة لغة تناسب تعدد المشاعر البشرية وتناقضها وغموضها وتناحرها. وكان جبران المبدع المطلوب في هذا السياق، والذي يحقق هذه الوظيفة المشروعة بامتياز.

من ذلك نتفق مع الذين يرون في أدب جبران أدبا حديثا بشّر بأجناس أدبية تبلورت فيما بعد على يد القادمين بعد بعقود زمنية. وآخر ما يمكن أن نزعمه في هذا الخصوص موضوع سبق جبران في كتابة ما يسمى الآن (قصة قصيرة جدا) – وهي في رأيي المختصر وكما تجلّت عبر أغلب تجاربها نوعٌ من إثارة اللعب واللهو – فجبران في عدد من مقطوعاته كان يقدم نصا قصصيا قصيرا جدا – ليس لأنه يريد اللعب واللهو بل لأنه وجد أن ما يريد التعبير عنه لا يمكن أن يطلب منه الكثير من الثرثرة والاستطراد، محققا بهذه النصوص الفكرة التي يريدها من جهة والمتعة الأدبية من جهة ثانية من خلال ضغط اللغة والاقتصاد في التعامل معها. ولم يكن ذلك تقليدا ولا نزوة من نزوات التجريب، بل كانت نوعا من مشروعية البحث عن (صيغة) أخرى للكتابة.

ولا أدري إن كان الاستشهاد بنص واحد كافيا للإشارة إلى مقدرة جبران على كتابة (ق.ق.ج)! ولكن سأذكّر – من باب التمثيل فقط - بعناوين بعض من هذه النصوص له من كتابه (المجنون) لأحرّض القارىء والمعنيّين بالأمر لإعادة قراءة جبران. وهذه النصوص هي (الثعلب – اللذة الجديدة – القفصان – على درجات الهيكل) ولا بأس من نقل واحد منها بعنوان (الثعلب) بكامله:

"خرج الثعلب من مأواه عند شروق الشمس، فتطلع إلى ظلّه منذهلاً وقال: "سأتغدّى اليوم جَمَلاً". ثم مضى في سبيله يفتّشُ عن الجِمال الصّباحَ كلّه. وعند الظهيرة تفرّس في ظلّه ثانيةً وقال مندهشاً: "بلى، إن فأرة واحدة تكفيني".

ونحن نطرح موضوع القصة القصيرة جدا دون غيره لأنّه استهلك واستنفد قوى الكثيرين ممن تستهويهم مزاعم الريادة تجيير التجديد لمصلحتهم وكأنّ التاريخ يبدأ من الطّاولة التي كتبوا فوقها أول قصة قصيرة جدا، وهم بذلك يعبرون عن بصيرة قصيرة جدا.