ضياعُ الأوطان

2019.03.26 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لطالما كان الاستبداد أهمّ عاملٍ في هدم بنى الدول والمجتمعات، وقد رأينا هذه النتيجة عشرات بل مئات المرّات عبر التاريخ، وها نحن اليوم نعيش نكسة جديدة على مستوى سوريا، نكسة لم نساهم في صناعتها إلّا بالقدر الذي يمكن به مُساءلتنا عن صمتنا على الديكتاتوريّة حتى استفحلت في مجتمعنا السوري فباتت جزءاً منه.

بعد سابقة خطيرة وغير مسبوقة في العلاقات الدوليّة، اعترف بموجبها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل قبل أشهر، ها هو يهدي اليوم في 25-3-2019 لإسرائيل مجدّداً اعترافاً سياسياً بشرعيّة سيطرتها على مرتفعات الجولان، في حين أنّه لا الواهب يملك ما وهب ولا الموهوب يحقّ له قبول الهبة أو المطالبة بها أو الانتفاع بها أساساَ.

تأتي خطورة هذا التصرّف من ثقل تأثير المرجعيّة الأميركيّة التي تكرّس الأمر الواقع، ومن ضعف تأثير المرجعيّتين السوريّة والعربيّة المضادّتين لهذا التصرّف

تأتي خطورة هذا التصرّف من ثقل تأثير المرجعيّة الأميركيّة التي تكرّس الأمر الواقع، ومن ضعف تأثير المرجعيّتين السوريّة والعربيّة المضادّتين لهذا التصرّف. فإذا أخذنا موازين القوى في المرحلة الراهنة، وفي المدى المنظور بل المتوسّط سنجد الكفّة راجحة باتجاه المعسكر الغاصب للأرض والحق.

في حسابات هذه الموازين، تتفوّق إسرائيل علينا بكافة المجالات العسكرية والاقتصاديّة، وفي العلاقات الدولية أيضاً حيث تكتسب تعاطف أو خوف الدول عامّة والغربيّة منها خاصّة، التي لا تستطيع الوقوف بوجهها تجنّباً للوقوع تحت مقصلة تهمة معاداة الساميّة، أو تجنباً للضغوط الهائلة من اللوبي الصهيوني العالمي. بالمقابل فإننا نتفوّق عليها بعدّة نقاط هامّة، فنحن أصحاب الحق وفق المنطق والتاريخ والقانون الدولي وقرارات الشرعيّة الدولية، ونحن الأكبر حجماً من حيث المساحة الجغرافيّة وعدد السكّان، ونحن – كشعوب- أصحاب الإرادة التي تلين ولا تتنازل.

لكن، هل يكفي ذلك لتقرير استعادة الحقّ المغتصب، وهل المجتمع السوري الآن في حال تمكّنه من المطالبة بالأجزاء المغتصبة من أرض سوريا شمالًا وجنوباً وشرقاً وغرباً؟ ألم يدمّر نظام الاستبداد البنية التحتيّة للدولة السورية، ألم يستنزف مقدّراتها وخيرة شبابها، ألم يهجّر نصف شعبها خارج حدودها، والباقون منهم يعيشون تحت خطّ الفقر والكرامة أو في السجون والمعتقلات، ومن لايزال خارج نطاق سيطرته يعيش حالة تخبّط وتشرذم وضياع بين عدّة مرجعيات كلّها ما دون الوطنيّة؟

ألا يبدو كذلك حال الواقع الرسمي العربي في غاية العجز، بعد أن استطاعت القوى المضادّة لثورات الشعوب أن تكرّس تحالفاً شبه معلن مع إسرائيل، تحت شعارات مكافحة الإرهاب ومحاربة تمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة؟ ففي أكبر الدول العربيّة من حيث عدد السكّان ومن حيث المقدّرات، نجد الحرب شعواء على شعوبها الرافضة لنهج التطبيع، بإشغالها بلقمة عيشها تارة أو بإثارة النعرات بين أبنائها بألاعيب مخابراتيّة تارة أخرى، أو بخلق عدوّ وهمي من أبناء الشعوب الشقيقة المجاورة. وفي دولٍ عربيّة أخرى نجد نفخاً مستمرّاً في كير العنصريّة والشعبويّة المقيتة، لخلق حالة من العداء بين أبناء الشعوب العربيّة بدل تعزيز حالة التضامن والشعور بوحدة المصير.

الحقيقة أنّ نظرة سريعة للأمور تجعلنا نتخوّف من مرور الزمن الطويل ومن التهاون في التحرّك للمطالبة باسترداد الحق، ولنا في المناطق المسلوخة عن سوريا بعد سقوط السلطنة العثمانيّة وزمن الانتداب الفرنسي أكبر مثال وعبرة. فمن لا يعرف أنّ عدداً من البلاد المجاورة التي تشكّل دول مستقلّة كانت عبر التاريخ تتبع لسوريا الكبرى أو ما كان يُعرف تاريخيّاً باسم بلاد الشام؟ وحتّى في أحلك الظروف، كانت تشكّل وحدة متقاربة متجانسة بالموروث والعادات وطباع الناس وثقافتهم واهتماماتهم وانتماءاتهم المختلفة، وما استشهاد سليمان الحلبي ومن بعده جول جمّال في مصر، ولا استشهاد عزّ الدين القسّام في فلسطين، إلّا أمثلة بسيطة على مدى هذا التقارب والانتماء الواحد.

لقد سئم السوريّون من خطابات النظام الأسدي الذي سلّم الجولان ابتداءً للوصول إلى السلطة، وانتهاءً للبقاء بها

بالتأكيد ليست هذه دعوة للسيطرة على دول الجوار، فلا نحن بوضع يسمح لنا بالتفكير بهذا الأمر، ولا نحن نقبل على أنفسنا أساساً أن نتصرّف بعقليّة الأنظمة القمعية الوصائيّة التي نعاني منها جميعاً، لكن بالمقابل، من حقّنا أن نتخوّف من المصير المجهول الذي قد يلحق بالجولان كما لحق بغيره من أجزاء سوريا.

لقد سئم السوريّون من خطابات النظام الأسدي الذي سلّم الجولان ابتداءً للوصول إلى السلطة، وانتهاءً للبقاء بها، ولم يعد لديهم ثقة إلّا بأن الحديث عن هذا الموضوع ليس أكثر من حجّة ووسيلة لاستدامة القمع وإعادة إنتاج النظام لذاته. لقد اكتوى السوريّون بنيران الأسلحة التي اشتروها من نقود المجهود الحربي التي دفعوها على مدار سبعين عاماً منذ النكبة الأولى عام 1948، وبات من حقّهم أن يفكّروا بطرق مبتكرة للتمسّك بأرضهم المحتلّة وبنفس الوقت التمتّع بحقوقهم الإنسانيّة المنصوص عليها في كل الشرائع السماويّة والأرضيّة.

إنّ الارتماء في حضن إسرائيل كما فعل بعضٌ ممّن يحسبون أنفسهم على الثورة، لم يكن إلّا نتيجة قصور فكريٍّ بيّن وغباءٍ سياسي فاضح وانعدامِ وطنيّة مُخجل، فلن يلتفت الإسرائيليون إلى هذه الحثالات أبداً إلّا بمقدار ما يستطيعون تسخيرها في مجالات التطبيع النفسي والسياسي الذي يسيرون به بشكل حثيث منذ معاهدة كامب ديفيد المشؤومة. ليس لدى هؤلاء شيء يقدّمونه أساساً، ولو كان لديهم ما يقدمونه فلن يطاولوا كعب الأسد العالي صاحب السبق أباً عن جدّ في هذا المضمار.

إنّ السلوك الوطنيّ القويم يفرض علينا أن نتمسّك بالشرعيّة الدوليّة المتمثّلة بقرارات مجلس الأمن والجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، كما يفرض علينا أن نتمسّك بقواعد القانون الدولي، التي تعتبر أيّ احتلال مجرّد حالة طارئة لا تُرتّب للمحتلّ أيّة حقوق مكتسبة مهما طال الزمن وتمادى ومهما تغيّرت الأحوال والظروف. كما يفرض علينا أيضاً أن نتمسّك بالتفريق الحقيقي بين الاحتلال الداخلي المتمثّل بنظام القمع والاستبداد، وبين الاحتلال الخارجي المتمثّل بإسرائيل وغيرها من القوى الأجنبيّة والمليشيات التي تحتلّ أجزاءً من سوريا، وعلينا أن نعمل جاهدين على التحرر من ربقة كلا الاحتلالين ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

إنّ السلوك الوطنيّ القويم يفرض علينا أن نتمسّك بالشرعيّة الدوليّة المتمثّلة بقرارات مجلس الأمن والجمعيّة العامّة للأمم المتحدة

علينا كذلك ألّا ننجرّ إلى المعادلة القائلة بأنّ إسرائيل تبقى أرحم من نظام الأسد، لأنّ هذا الاستنتاج – الحقيقي والواقعي والمشروع – هو ما سعى النظام وإسرائيل بنفس الدرجة لإيصالنا إليه، فلو احتلّت إسرائيل سوريا بالكامل، ولو لقيت من الشعب السوري عشرات أضعاف المقاومة التي جابه بها نظامَ الأسد، لما دمّرت ربع عُشرِ ما دمّره جيشنا الباسل، ولما قتلت واحداً على ألف ممن قتلهم جلاوزة الأسد من أبناء جلدتنا، ولما اعتقلت ربع من اعتقلتهم أجهزة مخابراته ومليشياته، إلّا أنّ ذلك لا يجعل من المحتلّ ملاكاً ولا من إسرائيل بديلاً مقبولاً عن حكم هذه العصابة المارقة.

ما يمكن أن يترك في النفس أثراً مطمئناً إلى حدّ بعيد، هو جيل الشباب الذين قاموا بالثورة رغم أنهم ولدوا في عصر الاستبداد، وما يعطينا مثالاً رائعاً لا يمكن المرور عليه من دون توقّف ولا تجاوزه دون أخذ دلالاته بالحسبان، العمل البطولي للصبايا والشباب الفلسطينيّين المقاومين حقّاً وبالفعل في الداخل المُحتل، وآخر مثال عنهم الشهيد عمر أبو ليلى. لكن هذا كلّه يحتاج إلى موقف واضح وحازم منّا جميعاً، أفراداً وجماعات، من كلّ من يستطيع أن يعبّر عن رأيه وأن يقول لا للتخلي عن أي شبر من سوريا وتحت أيّة ذريعة كانت. علينا جميعاً أن نكون على قدر المسؤوليّة الوطنيّة والتاريخيّة، ويجب ألّا يؤثّر علينا ما ألحقه نظامُ الأسد منذ خمسين عاماً بجوهر المفاهيم والقيم الوطنيّة ذاتها. الوطن أكبر من أجزائه، وهو الباقي وغيره زائل.