icon
التغطية الحية

ضعف يستجلب القوة.. سوريات في رحلة العلاج الموحشة للسرطان

2023.07.29 | 05:08 دمشق

آخر تحديث: 29.07.2023 | 05:08 دمشق

سوريات مصابات بالسرطان
سوريات مصابات بالسرطان
إدلب ـ حباء شحادة
+A
حجم الخط
-A

تحت شمس تموز الحارقة، ووسط موجة حر تخطت كل الأرقام القياسية، ازدحم المعتصمون داخل أربع خيام أقيمت في ساحة معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا للمطالبة بإدخال مئات مرضى السرطان الذين حرموا من العلاج المفقود ضمن منطقتهم المحاصرة، ليحققوا بعد أيام قليلة نجاحاً نادراً في شمال غربي سوريا.

أعلنت تركيا فتح المعبر أمام دخول مئات المرضى الجدد للسرطان، بعد إيقافهم نتيجة الزلزال، لكنهم لم يلغوا بعد شروطاً يعاني منها السوريون عند عبورهم الحدود، مثل منع إدخال المرافقين مع من يزيد عمره على ثماني سنوات وتعقيد إجراءات القبول والإحالة إلى المشافي التركية.

وسلطت الحملة التي شارك بها ناشطون ومرضى الضوء على ارتفاع معدلات نسب الإصابة بالسرطان، والتي بلغت ثلاث إلى أربع حالات تشخص كل يوم، بزيادة تفوق ضعف المعدل العالمي، كان للنساء النصيب الأكبر منها، بتعداد 11,7 ألف مريضة مقابل 9.24 آلاف مريض لعام 2020 وفقاً لإحصائيات "منظمة الصحة العالمية"، والتي توقعت زيادة بنسبة 177,6% لإصابات الرجال و155,7% لإصابات النساء بحلول عام 2040 في عموم البلاد.

بالنسبة للنساء المرتبطات بأطفالهن، واللواتي واجهن معوقات المشاركة الاجتماعية في سوريا، مثلت رحلة العلاج المنفردة إلى تركيا ضغوطاً نفسية مضاعفة، زاد عليها تقييد الإجازات المسموحة للعودة لزيارة الأهل والأحباب في الشمال الغربي لأشهر متتالية.

الموت قبل الحياة

حينما لمع الوميض الأزرق، فجر السادس من شباط الماضي، في سماء ولاية أنطاكيا الحدودية مع سوريا، ظنت إسلام أن الموت آت أخيراً، بعد أن اختلط عليها الزلزال مع دوارها المعتاد من جرعة علاج السرطان التي كانت قد أخذتها في اليوم السابق، لكنها كانت مخطئة من جديد، كما أخطأت سابقاً بتقدير موتها مرات عصية على العد منذ أن بدأت رحلة علاجها القاسية قبل عامين.

عرفت إسلام أنها ما زالت على قيد الحياة، رغم الظلام المحيط بها تحت الأنقاض، حينما سمعت أصوات الجيران وهم يصيحون، ونجت بعد ساعات بكسر بالساق والأضلع لتنتقل إلى بيت جديد قبل أن تتمكن من العودة إلى سوريا.

خشيت السيدة البالغة من العمر 46 عاماً الموت المرة الأولى بعد استئصالها الكتلة السرطانية من الثدي، "انصدمت في البداية، وحمدت الله، لكني تضايقت لأن لدي طفلين بلا أب، وخفت وبدأت التفكير كيف سأموت وأتركهما"، كما قالت لموقع "تلفزيون سوريا".

لكنها أحست بطعمه عند تلقيها الجرعة الأولى للعلاج الكيماوي في إدلب، إذ قضت أسبوعاً في المشفى وهي تغيب عن الوعي وتصحو على ألم يفوق الاحتمال، حتى عادت إلى بيتها لتكتشف خسارة شعرها وتبتعد عن لقاء الناس لشهرين إلى أن تأقلمت مع واقعها الجديد.

حديث إسلام عن الموت عاد في وصفها لـ"المرحلة الأصعب" من مرضها، بتلقي العلاج الإشعاعي، والتي بدأت بانتظار دام خمسة أشهر لدور الجلسة الأولى في بلد غريب وهي محتجزة وحيدة بعيدة عن أهلها وأطفالها، "بعد شهر ونصف في دار الجرحى تحدثت مع أختي وأنا أبكي وقلت لها إما أن أعود إلى سوريا أو أنني سأنتحر"، قالت وهي تصف حالة الانهيار النفسي التي وصلت لها نتيجة الانتظار ومنعها عن زيارة الداخل إلى أن تحصل على العلاج.

انتقلت إسلام إلى ضيافة عائلة سورية خففت عنها الألم، "الإنسان بحاجة لمن يشعر به، لشخص حنون، يستمد قوته من خلاله"، قالت وهي تتحدث عن ضرورة وجود المرافق للمريض المضطر للعلاج في بلاد غريبة، "كنا 25 مريضة، لم يبق منا سوى خمس، البقية توفين بالغربة، لم يستطعن رؤية أبنائهن، ولم يسمح لهن العودة إلى سوريا.. حتى من يمت وأهله حوله يموت براحة أكبر ممن يكون وحيداً".

الحاجة لتركيا

منذ بدء الحرب في سوريا كان مرضى السرطان هم الضحايا المنسيون للاشتباكات والحصار، إذ نقصت العلاجات وانقطعت الطرق إلى المشافي، وسبب الدمار والغبار والتلوث الناجم عن الأسلحة والمتفجرات ازدياد الإصابات بالمرض، وفقاً لتقارير منظمة "الوقوف ضد العنف المسلح" (Action On Armed Violence) التي درست الآثار البيئية والصحية لاستخدام الأسلحة المتفجرة في سوريا، والتي صدرت عامي 2019 و2020.

وأوضحت المنظمة أن مواد البناء والمعادن الثقيلة التي تصنع منها الأسلحة تسبب الأذية المباشرة لصحة الإنسان.

في تقييم مبادرة "REACH" ووكالة الرصد بالأقمار الصناعية التابعة للأمم المتحدة، الصادر في آذار عام 2019، عاش 53% من السوريين ضمن مناطق متعرضة للقصف الشديد والدمار، إذ تعرض نحو 131,5 ألف مبنى للدمار في عموم سوريا، زاد عليها دمار 10600 مبنى في شمال غربي سوريا بعد الزلزال، وفقاً للإحصائيات الأممية.

نقص التمويل الحاد للأزمة الإنسانية في سوريا ترافق مع ارتفاع نسب الاحتياج المستمر، إذ يحتاج 3.6 ملايين شخص للمساعدات الصحية في شمال غربي سوريا من أصل 4.55 ملايين يقيمون في المنطقة، منهم 3200 مريض بالسرطان، لذلك توازن المنظمات الإغاثية شمولية المرض مع كلفته للبدء بتوجيه المخصصات المالية للعلاج، ووفق هذه المعادلة يبقى مرض السرطان وتكاليفه الباهظة خارج الحسابات، وتكون تركيا هي الخيار الوحيد للمقيمين في المنطقة الخارجة عن سيطرة النظام السوري.

بالنسبة لإسلام التي كانت تعمل بالخياطة قبل الإصابة بالسرطان، والتي سببت لها اعتلالاً بالأعصاب وتصلباً بالأوردة وقرحة بالمعدة وشقيقة بالرأس، لم يعد العمل ممكناً، وحيث تقيم مع طفليها في خيمة فقيرة، لا تستطيع تلبية توجيهات الطبيب بالتغذية المناسبة والراحة، كما لا تستطيع تحمل تكاليف الأدوية التي تطلب منها في الجانب التركي أحياناً، على الرغم من مجانية العلاج، بحجة عدم امتلاكها للوثائق الرسمية اللازمة.

لكن محطات معاناتها السابقة كلها لم تكن سبب مشاركتها بالاعتصام أمام معبر باب الهوى، والتي سببت لها التعب الشديد والحاجة لسيارة الإسعاف لنقلها من خيمة الاعتصام إلى خيمتها، بل شاركت للمطالبة بمساعدة الأطفال الذين ينقلون وحدهم لمواجهة الواقع الغريب على الجانب الآخر من الحدود.

قوانين متعارضة

رفض مرور المرافق مع مريض السرطان من قبل المعبر التركي يقابله فرض وجوده ضمن مركز العلاج بالنسبة للأطفال دون سن الـ18، تستذكر إسلام كيف ساعدت فتى بالـ15 من العمر، كان يبكي في المشفى خشية من فقد دوره للعلاج بعد أن عجز عن تأمين مرافق بالغ لتوقيع الأوراق اللازمة لبدء الجلسة وملازمته خلالها، وقامت هي بدور قريبته وبقيت معه خمسة أيام حتى انتهى من الجرعة.

حلا، مريضة سرطان الكلية، تبلغ من العمر 17 عاماً، خسرت دورها بالعلاج مراراً نتيجة عدم تمكنها من تأمين المرافق داخل المشفى، على الرغم من انتظار كل دور مدة شهر، قضتها في مسكنها ضمن دار الجرحى وهي تحاول إقناع من تجد من المريضات البالغات بأخذ دور المرافق لها، حسبما قالت لموقع "تلفزيون سوريا".

لم يشأ والدا حلا إخبارها أنها مريضة بالسرطان، لكن دموعهما كشفت عن هذا الواقع قبل عامين، "لم أحزن ولم أفكر بشيء عند مرضي ولكن رؤيتي لحزن أهلي سببت لي التعب فأنا لا أريد أن يبكوا عليّ"، وقالت إنها استجمعت قوتها ووافقت على العبور وحيدة إلى تركيا بعد أن استنفد والدها الحلول وهو يحاول مرافقتها.

معاناة الطفلة المراهقة جعلتها تشعر بالتعاطف مع المرضى ممن هم أصغر سناً، والذين كانوا سبباً في انضمامها للاعتصام المطالب بفتح الحدود أمام المرضى، "حينما ذهبت للمشفى وأنا بهذا العمر عانيت كثيراً وشعرت بالضياع فكيف سيكون مصير الأطفال الصغار".

صوت حلا الضعيف أشار إلى تعبها، بعد أن قضت يوماً أمام المعبر الحدودي وهي بانتظار مرورها لاستكمال العلاج في تركيا، ولكن وحتى بعد السماح بمرور المرضى لم تستطع تأمين الموافقة الخاصة بها، بحجة أن حالتها "غير مستعجلة".

الألم سبيل للإلهام

بالنسبة إلى نجاح سرحان، الناشطة بحقوق المرأة، رحلة علاج مرض سرطان الثدي ترافقت مع الحملة العسكرية للنظام السوري وحليفته روسيا على ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، إذ كان ألم فراق أطفالها الأربعة يماثل ألم الجرعات في تركيا، "كانت مرحلة صعبة جداً، خاصة لأني اضطررت لترك أولادي بسوريا في منطقة خطرة، وهي منطقة جبل الزاوية، حيث كنت مقيمة في ذلك الوقت"، كما قالت لموقع "تلفزيون سوريا".

عند اكتشاف الورم السرطاني عام 2018، كان في مراحل متقدمة، ولكن نجاح "صممت" ألا يؤثر المرض على حياتها وألا تستسلم، وتابعت التنقل عبر الحدود مدة ثلاث سنوات إلى أن عادت عام 2021 لتنقل مسكن أطفالها إلى مدينة سلقين في ريف إدلب الشمالي، لتواجه بعدها برفض استكمال العلاج في تركيا بحجة القدرة على استكماله في سوريا، على الرغم من أن الدواء المطلوب موجود في الجانب التركي ويتطلب تأمينه معاناة خاصة.

عودة نجاح دفعتها لمتابعة عملها بمجال الدعم النفسي للنساء وبرأيها فإن تجربتها مع المرض كانت "دافعاً لزرع الأمل" عند النساء والفتيات حسبما قالت، مضيفة "كنت أراهن يأخذن القوة مني، وألمس ذلك في التغيرات التي تطرأ عليهن".