صورة للديار يا ستالين

2023.02.11 | 06:04 دمشق

صورة للديار يا ستالين
+A
حجم الخط
-A

فررتُ فرار موسى إلى مدين، لكن من غير وكز  أو لكز، هربت ليس خوفًا من البراميل، وإنما خشية الموت تحت التعذيب، هي كلمات نطقتُ بها أظهرت بها خلافي مع الفرعون، فوشى بعضهم بي فأصبحت خائفًا أترقب، وكان جيراني حذروني من العودة إلى الدار بعد أن دهمت، ثم وجدت نفسي في تركيا، فحمدت الله على النجاة من القوم الظالمين، ثم استقر بي المقام في بلاد بني الأصفر، وحننت إلى الديار حنين قيس إلى ديار ليلى، لكن حنيني هو خلاف حنين قيس بن الملوّح الذي كان يشتاق إلى من سكن الديار وليس الديار، فإني قد بغضت الناس وصرت أخشاهم جميعًا، وكنت أشتاق إلى أشياء الديار؛ الأعشاش والموقدة، والمدحلة الحجرية، وسجع الحمام، والأشجار، والكتب، ودرب الدار، واللعب القديمة، كانت الناس قد تغيرت ولم يعد أحد يسلّم على الآخر خوفًا وفرقًا وريبة.

اتصلتُ بجيراني، واهتديت إلى جاري رجب، وسألت عن داري، وقد نزح أكثر الجيران، ولا أحد مثلي يحن إلى الديار، ولو عدت لقبلت ذا الجدار وذا الجدار، وتعجبت من ناس باعوا ديار آبائهم وسكنوا دورًا أخرى، فكيف تباع الذكريات؟ وكنت أتابع الأخبار على التلفزيون، فوجدت أسرة مقدسية تفطر فطور رمضان أمام باب بيتهم المحتل، استئناسًا بروائح جدرانه وأشجاره.

أخبرني جاري رجب أن مسلحًا احتل داري، وأنه لا يعرف اسمه، ويلقبونه بالشارب الغليظ، ثم استقر لقبه على ستالين الثاني

القصيدة الجاهلية تبدأ بالديار، ثم بالحبيبة، فالأرض هي الأم الأولى، والأم قبل الحبيبة، وقد ظُلمتْ القصيدة الجاهلية، فهجيتْ كثيرًا في قصائد المحدثين، مع أن ديار مية وعبلة لم تكن سوى خيم وبيوت من الشَعر، وقد وفى الشعراء العرب للمنزل الأول مع أنهم كانوا رحلاً، سعيًا للكلأ والمرعى.

أخبرني جاري رجب أن مسلحًا احتل داري، وأنه لا يعرف اسمه، ويلقبونه بالشارب الغليظ، ثم استقر لقبه على ستالين الثاني، لشبه الشارب بالشارب، اقتحم الدار وسكن فيها، سألت رجب أن يتلطف به فلا يذعره علي، ويصلني به، ففعل وحصل على رقمه، وأرسله لي، وحذرني منه، وسألني أن أتجنب أمورًا كثيرة، وأن ألزم الحياد السلبي،  ففعلت، واتصلت به، وعرفته بنفسي، وأخبرته أني صاحب الدار، وشرعت في التودد إليه، ففي داري حناكيش كثيرة، لكنها ليست مثل حناكيش الفلم المصري الذي مثّله كمال الشناوي، وإن كان ببيتي ثروات مدفونة، وحناكيشي ليست سوى ذكريات وأشياء قديمة، وسألته إن كان يواجه عوائق في إسالة المياه بعد انقطاعها في الأنابيب، فأقر بالأمر، أرشدته إلى طريقة تنفيس خزّان الماء، وهي طريقة معقدة، بسبب سوء تركيب الدارة المائية، والمياه لا تدفق في الأنابيب إلا بعد أن يبلغ الخزان ثلثه امتلاءً، فسرَّ بعلوم الهيدورليك التي أفشيتها له، ثم هديته إلى المكان الذي أخفيت فيه بعض المدّخرات، وكانت قيمة العملة السورية قد بدأت تنخفض، فسرّ بها أيضًا، وسألني عن سبب تلطفي به مع أنه معتد غاصب، فذكرت له السبب؛ وهو الشوق والحنين، وكل ما أرغب فيه هو أن يرسل لي بين الحين والآخر صورًا  لبعض أنحاء بيتي؛ المكتبة، النار في الموقدة الحجرية، الدالية، البئر، البركة، مسكبة الورد، فوافق على ألا أكثر من الطلبات.

أخبرني رجب أنّ ستالين لا يُرى إلا مسلحًا برشاش، فهو من القادة والرؤوس، وكنت آمل أن أدفع رجب إلى سرقة مخطوط قديم من مكتبتي، ليس له ثان على الأرض، هو أحد أجزاء كتاب النبات لأحمد بن داود الدينوري، ولا أعرف كيف تسرّب إلى مكتبتي، أستعير، فلا أعيد الكتب، ويستعير أصحابي كتبي، فلا يعيدونها، لكني لم أكن أثق به، فالناس في فاقة وعسر، والأخلاق ترتخي في الحرب. طلبت منه أن يقصد كرمًا في ظاهر البلدة، قريب من الحدود التركية، أول الربيع، ويسجل بهاتفه صوت هزار الكروم، وهو طائر يطرب فيغني وينشد لحنا فريدا عند باكورة العنب، ويحط دومًا في أعلى غصن في الكرمة، وهو شديد الحذر، فاعتذرَ، وأبلغني أن طلباتي عجيبة، وأن لم تعد كروم في المدينة فقد أحرقت كلها دفعا للبرد.

 لا طيور في المدينة سوى العصافير.

سألت ستالين الثاني في الصيف أمرًا استغربه كثيرًا وهو أن يترقب في الصيف خنفساء العنب، وهي خنفساء تبدأ في دقِّ طبل خفي في أعفاج بطنها احتفالا بنضوج العنب، فاعتذر لأن صوت الرصاص يحجب أصوات الهوام والحباحب والحشرات. أرشدته إلى صندوق فيه بعض الذخائر والأمتعة القديمة كنت أنوي عرضها ذات يوم في إحدى الصالات، ذكرى؛ القداحة ذات الفتيل، وقداحة أخرى انقرضت لها أنبوب من الصوف ينّدى بالبنزين، وبيت الساعة الخشبي على هيئة المحراب، وأباريق نحاسية كان أبي يتوضأ بها، وبوسترات أفلام هندية وكاوبوي قديمة، وصور، وطلبت منه تصوير مدحلة فوق سطح الدار الطينية، وهي منحوتة من حجر ملحي، كنت أسوّي بها السطح الطيني، فأرسل لي صورًا للدالية التي جفت من القهر، ولم يكن لعنبها مثيل في الطعم.

وكنت ما أزال أطمع في أن أدفع جاري رجب لاختلاس المخطوط، فهو ثمين، وكنت أزمعت بيعه إلى مكتبة برلين، ثم استقر رأيي أن أهديه إلى مكتبة قطر، وحالت الحرب بيني وبين حلمي بالثروة، وفي أحد بطون الكتب  رقّ قديم يعود إلى القرن الهجري الأول بخط زيد بن ثابت، فيه حديث نبوي، كنت أفكر في بيعه أيضًا، ثم قرّ رأيي اتخاذه لوحة، أعلقها في صدر غرفة الضيوف، وكنت حصلت عليه من أحد شيوخ بلدتنا، سألني النجدة في فك حروف الرقّ، فاعتكفت أسبوعًا حتى فككت حروفه وألفاظه، وكان رجب يعتذر لي بأن ستالين الثاني لم يدعُ أحدًا من الجيران إلى داره، مع أنهم يدعونه لشرب القهوة والشاي، فاكتفيت منه بالصور، ولم يرسل لي في ثلاث سنوات سوى أربع صور، إحداها صورة المدحلة الحجرية. لكني وقعت في خطأ كبير عندما سألته عن هرّة الدار، بل هي هرّة الحيّ، فالهررة ملكيات عامة، والكلاب ملكيات خاصة، والهررة تلزم الحيّ، والكلاب تلزم صاحب الدار.

وقع زلزال قهرمان مرعش، فاتصلت برجب أسأله عن الأحوال وسلامة الجيران ودور الجيران، فأخبرني أن الزلزال دمّر بيتين في كل المدينة، وأصيب كثيرون، وأن ستالين الثاني

وهي هرّة ملوّنة تشبه النمر، لطيفة، ودودة، طوافة، مثل كل الهررة، وسـألته أن يحنو عليها ويرعاها، فأعرض عني، ولم يعد يرد على رسائلي وهواتفي، وجعل بيني وبينه حاجزًا، سألت رجب عن الأمر، فقال إن سبب إعراضه عني، كونه من طائفة تعادي الهررة، وتعتقد بأنها أرواح متناسخة، وهم يتجنبونها ويهابونها. وعجزت في الاعتذار إليه. كان قد حجبني، وآخر صورة أرسلها لي صورة له، وهو يشعل النار في الموقدة، ويجلس على المصطبة الحجرية، ويستمتع بالنار ولحم حمامات الدار المشويّة.

 ثم وقع زلزال قهرمان مرعش، فاتصلت برجب أسأله عن الأحوال وسلامة الجيران ودور الجيران، فأخبرني أن الزلزال دمّر بيتين في كل المدينة، وأصيب كثيرون، وأن ستالين الثاني، هو الوحيد الذي قضى في الزلزال، فقد تدحرجت المدحلة وسقطت فوق رأسه، وهو يستمتع بلحم حماماتي على المصطبة الحجرية، وقال إن هرتي كانت تنوح أمام باب الدار، يغلظ مواؤها ويشتد مثل الزئير، ويرقّ أحيانًا مثل ضباح الثعلب، أو يشحج مثل شحيج البغل، وأنهم غفلوا عن تحذير الهرة لهم من وقوع الزلزال.