صراعات ثقافيّة

2019.12.13 | 16:55 دمشق

images_10.jpg
+A
حجم الخط
-A

الإنسان في الوطن العربي وليد نظم متقلّبة متراوحة بين التقليد والتحديث، يعيش وسط سلطات تتكاتف لقهره وإفقاره. والناس فيه يتراكضون لتحصيل إحدى السلطتين: السياسية أو الاقتصادية أو كليهما، مما جعل قيم المجتمع العربي – عموماً- تتحدّد في ثلاثة أمور، هي: المال، ثم ... المال، ثم المال.

وأكثر المواطنين يحتقرون الأعمال العلمية ويتركونها الذين يرهقهم موظّف الضرائب لأن يده لا تطال سواهم.

وتصبح الصورة عن المحاضرات والحوارات والكتب أنّها كلام في كلام، والكلام لا يُطعِم خبزاً. أما التقنيّة، فنستورد منجزاتها ناجزة من غير أن نفهمها، كما نستورد النتائج النظرية من غير أن نتعلّم المنهج الذي أوصل الغرب إليها.

وإذا كان لا بدّ - لإكمال صورتنا الحضارية - من تحصيل بعض المعارف العامّة، فإنّنا نتجّه فوراً إلى الثقافة الاستهلاكية المعلّبة في سوبر ماركت السلطة الإعلانيّة، وننقاد معها ساعين إلى تنمية النجاحات الفرديّة، من غير أن ندرك مدى الفائدة التي يجنيها الفرد من خلال العمل للمصلحة العامّة.

ولنلاحظ الهوّة السحيقة بين شعاراتنا وممارساتنا، عبر مثال واحد من عشرات الحالات المنتشرة في وطننا العربي الكبير:

فنحن نطلب من الناس التعلّم، وما أن يحصل الإنسان على شهادة جامعية حتى يجد نفسه يبحث لنفسه عن فسحة على أحد الأرصفة، يندب حظّه، ويلوم ذويه الذين دفعوه لإكمال تعليمه. والمحظوظ من هؤلاء ينال وظيفة لا تغنيه من جوع، ولا تأمنه

تحررت الأقطار العربية على التوالي. بنت قياداتها السياسية دويلات قطرية مغلقة، وبقيت تدور في فلك مستعمِرها السابق

من خوف، ويعيّن في غير مجال اختصاصه، ثم يفقد معارفه العلمية بالتدريج، ويبقى تابعاً ماديّاً لسواه، مما يشعره بأنه هامشي، فيفقد الثقة بالعلم وبالدولة، ثم يفقد ثقته بنفسه، ويعامَل اجتماعياً على أنه فاشل، فيلجأ إلى الاستكانة واللامبالاة. وهكذا يُضاف إلى الأمية الأبجدية رقم خيالي من أميّة المتعلّمين.

لقد تحررت الأقطار العربية على التوالي. بنت قياداتها السياسية دويلات قطرية مغلقة، وبقيت تدور في فلك مستعمِرها السابق، وانعكست التجزئة القطرية على المؤسسات والهيئات والأسر العربية، وأمسى كلّ فرد يبحث عن خلاص لنفسه، متوّهماً أن الخلاص الفردي ممكن في ظل العلاقات التراتبية الاستبدادية المهيمنة، وانعكس ذلك على الوضع الثقافي، فشاعت اللامبالاة، وانتشر الشعور بالاغتراب، واكتسب الناس الكسل، وجهلوا أهمية المشاركة ومنافعها، وتعلّموا على فقدان الثقة بالذات وبالآخرين، وهجروا العمل، وتدافعوا لإحراز الثروات واعتادوا الرياء والكذب والنفاق والاتكاليّة.

من معطف هؤلاء خرج الإعلامي مترنّحاً يبحث عن هويته، وهو على الغالب، أخلى المكان لموظفين من أهل الثقة دفعت بهم السلطة إلى الصفوف الأمامية على الصعد كافة، ومن بينها الصعيد الإعلامي، وهم لا يختلفون كثيراً عن الأمي الّذي يعدّ قراءة الصحيفة ترفاً لا يقدر عليه، فكيف يمكن أن ينتج هؤلاء إعلاماً صالحاً حتى للقرن السادس قبل الميلاد.

إنّ إعلاميينا الرسميين – كمواطنيهم – يعتقد الواحد منهم أن نجاح الآخر يعني فشله. وبالتالي فهو في صراع مع مثيله، ونحن – عموماً – لانتقد، بل نكتفي بالتشهير ببعضنا. وكثيراً ما أعرض عن التصريح بآرائي لأنني لا أريد فضّ العلاقة الثقافية والحميمة بيني وبين الآخرين.       

فإذا ما اجتمعت بإعلاميين ذوي اتّجاهات مختلفة، بدءاً من أقصى اليمين وانتهاءً بأقصى اليسار، فإنّ التصريح بوجهة نظري لابدّ أن يعني أنني سأخسر الفرقاء الذين لا يوافقونني عليها لأننا – إلى الآن – لم نتعلّم كيف نتّفق على الاختلاف، ونربأ بأنفسنا عن الطائفية والتعصّبية والشلليّة. ونتجاهل أن أيّاً منّا لا يستطيع أن يكشف إلاّ عن حيّز ضئيل من الحقيقة، من غير أن يستطيع أحد الادّعاء بحيازتها وحده.

قد يبدو الإعلامي تقدميّاً في محيط زملائه الجامعيين مثلاً، ورجعياً في محيط أسرته، فنلاحظ لديه انفصاماً وازدواجيةً في السلوك، مما يصرف الجمهور عنه.

والمثقِّف يخاف من إبداء الرأي بحريّة، ولا يبقى مصرّاً على مواجهة السيئ أو الشر أو القبح، فكيف يريد من الجمهور أن يفعل ذلك؟

وإذا نظرنا إلى بعض المثقفين في مكان ما، نراهم ناقدين محلّلين موضوعيين، فإذا ما مُنحوا خمس دقائق في الإذاعة أو التلفاز، أو أتيحت لهم مساحة في صحيفة، نجدهم ينقلبون بطريقة ميكانيكية إلى مدّاحين مبشِّرين.. تعجبهم سلطة ما، وبرامجها، والتقدّم الذي تحقّق بفضل فلان خلال فترة وجيزة. ثم نراهم في اليوم التالي يعانون الأمرّين من أجل الحصول على الرغيف، أو يُضطرّون إلى القيام بأعمالهم على ضوء الشموع، حيث لا كهرباء.

كما أن الإعلامي الرسمي – عموماً وإجمالاً – يستعمل، عادةً، لغةً اختصاصية

بعد ثورات الربيع، وخروج العربي من القمقم، ألا ينبغي لنا أن نعيد النظر في كثير مما كنّا نعدّه من الثوابت؟

تغرق في استخدام مصطلحات لا يفهمها الجمهور، وهو بذلك يماثل الإنسان الذي يتحدّث بأسلوب زئبقي عبر جمل غامضة يصعب ربطها، بحيث تكون محصّلة خطاب أو مقابلة تلفزيونية تمتد ساعتين هي: لا شيء.

مما يجعل الجمهور ينحسر شيئاً فشيئاً، ويمتنع عن الإصغاء لإعلامي لا يقول ما يريد قوله ببساطة ووضوح.

بعد ثورات الربيع، وخروج العربي من القمقم، ألا ينبغي لنا أن نعيد النظر في كثير مما كنّا نعدّه من الثوابت؟

ألا ينبغي لنا أن نواكب الحضارة وننطلق، بجرأة وصدق، لإعادة تشكيل الوعي المجتمعي بما يكفل حريّة الرأي، وحق معارضة الحكّام لنبني دولاً ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتجعل منه هدفاً لتحقيق المواطنة؟

إن العالم المنفتح عبر وسائل التواصل المتعدّدة خلق المواطن الصحفي، وهذا يعني أن كلّ فرد معنيٌّ بالشأن العالم، ولا يمكن لأحد أن يكون بمنأى عمّا يجري حوله، مهما بعدت المسافات، ولم يعد وارداً أن نترك السلطات تفكّر عنّا وترسم مسارات حياتنا وفق ما يحقق مصالح المتسلطين.

لم يعد الشيخ/ المعلم/ القائد الفذّ قادراً على قيادة الجماهير بعشوائية، كما كان سابقاً، بل غدا، مثل باقي أفراد المجتمع، عرضة للمساءلة والحوار والمحاسبة، فكلٌّ منّا لديه القدرة على المحاكمة العقلية واختيار الصواب الذي يناسبه وينسجم مع محيطه، بعيداً عن الشعارات الزائفة التي كانت تنطلي علينا فيما مضى، وكانت أحد أسباب تخلّفنا بالرغم من أننا نمتلك الوسائل الأساسية لمواكبة العصر.

حقّاً، إن آفاقاً جديدة انفتحت أمامنا وعلينا أن نغزّ السير نحو الازدهار.