يصادف، في اليوم الثاني من شهر أيار 2021، مرور خمس وخمسين سنة على رحيل شيخ الشباب، قنديل سوريا المضيء، فخري بك البارودي (1887- 1966).
فخري البارودي سياسي، وشاعر، وأديب، ومثقف، وباحث في أصول الموسيقا الشرقية، مناصر لقضية المرأة، وهو واحد من أظرف ظرفاء الشام، شخصيته الإنسانية أقرب ما تكون إلى زوربا اليوناني بطل رواية كازنتزاكس الشهيرة.. وصفه عبد الغني العطري، صاحب كتاب "العبقريات الشامية" بأنه رَجُل في أمّة، وقال عنه المؤرخ سامي مبيض: "كان علامة فارقة في تاريخ سوريا المعاصر". وهذا الكلام، في الحقيقة، سديد، لأن من يتتبَّع سيرة البارودي يأخذ فكرة على نصف قرن من تاريخ سوريا الذي يبدأ من لحظة انهيار الإمبراطورية العثمانية، ومغادرة آخر جندي عثماني الأراضي السورية في شهر تشرين الأول 1918، وحتى رحيله في ربيع سنة 1966.
فخري البارودي شامي، ثري بالولادة، من سكان حي القنوات، أبوه محمود بك البارودي من أعلام دمشق، وأمه من أعيان فلسطين (نسبُها يعود إلى حاكم عكا ظاهر العمر)، وهو الابن الوحيد لأبويه، لذا عامله والده بدلال مُفرط، ووظف لأجله مربين، ومساعدين، وطهاة.. ولكن هذا لم يكسبه صفات سلبية، بل إنه أولع، منذ يفاعته، بحب البلد، والشعب، والعِلْم، وكان يتملكه على الدوام هاجس النهوض والتقدم.
ثمة حادثة، أرى أنها مفصلية، طبعت حياة فخري البارودي:
في تلك الأيام، كان معظم أبناء الطبقة الارستقراطية في مصر، وسوريا، ولبنان، وغيرها، يسافرون إلى مدينة النور باريس، حيث يتلقون العلوم، والفلسفة، والآداب، ويعودون إلى بلادهم ليكونوا نافعين لأنفسهم ولشعبهم. عندما قرر فخري الذهاب إلى فرنسا لدراسة الهندسة الزراعية، في سنة 1911، صعب على والده محمود بك البارودي، فراق ولده الوحيد، فرفض الفكرة بشدة، ما اضطر فخري للهرب، ووضع والده تحت الأمر الواقع، واختار أن يدرس في جامعة مونبلييه.
رضخ "محمود بك" للأمر الواقع الجديد، وصار يرسل لفخري ما يلزم له من مصاريف الدراسة والعيش في فرنسا، ولكنه لم يحتمل غيابه أكثر من سنة، فتوقف عن إرسال النقود له، وأوصى أم فخري بألا ترسل له النقود دون علمه، حتى أجبره، أخيراً، على العودة.
كان فخري، في تلك المرحلة، قد وضع يده على السر، بل المعادلة الخطيرة التي تحكم بناء المجتمعات وتقدمها، ويمكن تلخيصها بكلمة واحدة (العِلم)، أو يمكن صياغتها بجملة واحدة راح الشاب فخري، المقهور من عودته القسرية، يكتبها على جدران مدينة دمشق هي: تعلم يا فتى فالجهل عار!
دعونا نتوقف، بشكل خاص، عند كلمة "عار"، فالبارودي لم يقل إن الجهل يوصل إلى البؤس، والمرض، والتخلف، ويَحُول دون تقدم البلاد، بل صنفه في خانة العار، والعار أقصى مراتب العيب، إنها صفة تلصق بالشاذ والمسيء والمقصر، والإشارة إلى "التقصير" هنا تعني أن تلقي العلم – في نظر البارودي – واجب وطني، ومَن لا يسعَ لاكتسابه يلحقْ به العار.
لئلا نُفلت فكرة العلم من أيدينا، دعونا نقرأ هذا المقطع من النشيد الشهير الذي كتبه فخري البارودي في وقت لاحق من حياته، ولحنه الأخوان فليفل، وفيه هذا المقطع الذي يأتي في بيت القصيد:
فهبوا يا بَني قومي
إلى العلياء (بالعلمِ)
وهذا تنويع على فكرة البارودي الأصلية (تعلم يا فتى)، فالتقدم، "بلوغ المعالي"، لا يكون إلا (بالعلمِ).
على سيرة النشيد. في سنة 1928، زار أمير الشعراء أحمد شوقي مدينة دمشق، وكان معه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. دعاه فخري البارودي إلى منزله مع نخبة من الموسيقيين والشعراء المحليين، وخلال السهرة عرض البارودي كلمات النشيد "بلاد العرب أوطاني" على محمد عبد الوهاب ليرى إن كان مستعداً لتلحينه. والجدير بالذكر أن الرجلين كلاهما من أصحاب النكتة والمزاح اللطيف.
عن ظرف محمد عبد الوهاب: في مقابلة تلفزيونية معه، تسأله المذيعة عن سبب امتناعه عن ركوب الطائرة، فيقول:
- لما تكوني راكبة سيارة، وفجأة تصير مشكلة في العجلة، فالسواق بيوقف على يمين الطريق، وبيصلحها وبيمشي، أما لو حصل ده في الطيارة السواق ح يوقف فين؟!
المهم أن عبد الوهاب، عندما سمع النشيد توقف عند كلمتين، الأولى "بغدانِ"، والأذن لم تعتد هذه الكلمة في مكان بغداد، والكلمة الثانية هي "تطوان" فهي لفظة ثقيلة، ربما لا تحتملها انسيابية ألحان الأناشيد، ولكن البارودي لم يقبل بتغييرها، وقال إنها من حدود بلادنا العربية، فمازحه عبد الوهاب قائلاً:
- فخري بيه إنت فاكرني ملحن جغرافي؟!
أزعم، وأنا أخوكم، أن النزوع القومي، العروبي، عند فخري البارودي ليس متعصباً "شوفينياً"، فهو منسجم مع تركيبته النفسية والعقلية والثقافية، وغير بعيد عن هواجس تلك المرحلة التاريخية التي تزامنت مع وصول الطورانيين إلى السلطة في المملكة العثمانية، وظهور جمعية "العربية الفتاة" بوصفها رداً على الفرز القومي التركي وجمعية "تركيا الفتاة".. وبقدر ما كان البارودي قومياً، عروبياً يعتبر مدينة تطوان المغربية من حدود بلاده، تراه حريصاً على لملمة كيان الدولة السورية، القُطرية، والمحافظة على الخصوصية السورية، وهناك حادثتان تثبتان صحة هذا الزعم، الأولى أنه لاحظ، من خلال متابعاته للمسرح، أن الفرق المسرحية السورية تقدم أعمالها باللهجة العامية المصرية، وكان عبد اللطيف فتحي من الشخصيات المقربة جداً منه، فاقترح عليه اعتماد اللهجات المحلية السورية، وهذا ما كان.
الحادثة الثانية بطلها "صباح الدين أبو قوس" الذي جاء من حلب إلى دمشق، استعداداً للسفر إلى أوروبا، وكما هي العادة، الذين يعرفونه ويعجبهم صوته أخبروا الزعيم فخري البارودي بذلك، فاستمع إليه، وتحمس له، وأبقاه في دمشق، وتكفل بمصاريف دراسته، وخصص له راتباً شهرياً وأساتذة كباراً مختصين بالموسيقا الشرقية، لتعليمه فنّ الغناء. وعندما أصبح جاهزاً، دعاه للغناء أمام الرئيس شكري القوتلي، (1946) بعدما أطلق عليه اسماً فنياً مستوحى من اسم البارودي نفسه ليصبح الفتى الحلبي يعرف باسم "صباح فخري" من يومها.