icon
التغطية الحية

إعادة اكتشاف فخري البارودي وتاريخ دمشق

2021.05.30 | 16:15 دمشق

 فخري البارودي وتاريخ دمشق
إعادة اكتشاف فخري البارودي وتاريخ دمشق
ياسر الأطرش
+A
حجم الخط
-A

تظن أنك تعرف تاريخ بلدك وتفاصيلها، حتى تأتيك سيرة فخري بيك البارودي، فتعلم حينها أنك علمتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ!

حدث هذا معي عندما قرأت كتاب "الرحلة الأوروبية" لفخري البارودي بتحقيق الكاتب والأديب السوري إبراهيم الجبين، وهو الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات عام 2021.

إبراهيم الجبين، ابن دمشق، شعر بنقصٍ ما يعتريه عندما دخل عوالم البارودي الشامية، فما بالك بمن اكتفى بنثرات من هنا وهناك عن تاريخ أقدم عاصمة في التاريخ.

ومع فخري الباروردي ومذكراته سنكتشف كمية التزوير والدجل والتشويه التي تجرعناها في المناهج التعليمية والدراما السوقية والروايات الحزبية والإيديولوجية عن دمشق، تلك التي يرسمها كلٌّ على هواه، وكأنها بلا ذاكرة وما عليها من حافظين!.

الكتابة بمنهج الحب

أدرك إبراهيم الجبين بحسه النقدي أن الكتابة عن رجل عبقري منفلت من القيود كلها، ثائر متقلب عنيد.. لا يمكن أن يكون وفق منهج نقدي معين، فاضطراب حياة البارودي وتقلباتها مصادر غنى سيرته واستثنائيتها، وهو رجل لا يمكن القبض عليه بمسطرة النقد، كل ما عليك هو أن تحبه وتكتب عنه بحب وكثير من الفوضى والمشاعر، فمهما جئتَ بتوصيفات ومدائح أو انتقادات، لن تبلغ درجة عالية في سلّمه الذي لا آخر له، فمن غيره صلت دمشق على جنازته مرتين وسمته شيخ شبابها؟!.. وعلى مبدأ البارودي ومحقق رحلته سأمضي، لأكتب بمنهج الحب.

تبدأ القصة من لجوء الجد الأكبر لـ"محمد فخر الدين" الذي أصبح فخري لاحقاً، في القرن الثامن عشر من عكا إلى دمشق، بعد نكبة أميرها ظاهر العمر، فهو إذن سليل تلك الأسرة التي بنى أميرها سور عكا الشهير الذي صمد أمام أطماع نابليون فيما بعد.

ولد فخري البارودي في حي القنوات في بيت "باكوية" ووجاهة أواخر القرن التاسع عشر، وكان وحيد أبويه، وبعد الدراسة التقليدية في الكتاتيب والمدارس المتوسطة المتاحة آنذاك، نفر الفتى من حياة أبناء الوجهاء الفارغة، ومن حياة دمشق العثمانية الكئيبة الخالية حينها من أي منشط ثقافي أو اجتماعي أو فني، إنه زمن اللاشيء الذي ترفع الفتى فخري عن القبول به، فغافل والده ومضى في رحلته الأوروبية التي قادته إلى فلسطين ومصر وإيطاليا وفرنسا والنمسا وألمانيا وبعض دول شرق أوروبا وإسطنبول، بين عامي 1911 و1912، وفي مذكراته عن تلك الرحلة لم يكن رحالة بمعنى الكلمة، فما قدمه في وصف الرحلة قليل مقارنة بعمل رحالة محترف، إلا أنه قدم وصفاً للمرحلة سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وهذا هو المأمول من رجل باهتمامات البارودي وشغفه بالتحول ببلده من مستهلك لكل شيء إلى منتج حضاري ومعرفي.

فخري المناضل

في أوراق البارودي المبعثرة في ثنايا مذكراته، والتي أكل حريق بيته عام 1963 كثيراً منها ومن مؤلفاته القيمة الأخرى، يقص علينا فخري بيك سيرته من سلك الجيش العثماني الذي قاتل معه عام 1914 وأُسر وسجن إثر ذلك حتى 1917، إلى قتاله مع جيوش الثورة العربية ضد العثمانيين، إلى قصصه مع أبناء الشريف حسين في سوريا وشرقي الأردن.

وأي حديث يلم بسيرة مقاتل وسياسي أُسست في بيته الكتلة الوطنية، وأسس في ريعان شبابه أول صحيفة سورية ساخرة "حط بالخرج"، وشيَّب الفرنسيين بدهائه ومقاومته حتى حكموا عليه بالإعدام غير مرة، رجل باع 14 ضيعة من رزقه لدعم الثورات الوطنية ضد المحتل الفرنسي، وعاد إلى الخدمة بعد سنين طوال، متطوعاً لقتال الفرنسيين في أثناء قصفهم دمشق عام 1945، وشاعر كتب موشح "يمر عجباً" الخالد، ونشيد "بلاد العرب أوطاني" الذي ينافسه في الخلود، وما بينهما كثير من الشعر الساخر المشاغب، ومعاجم الموسيقى وكتب الطبخ، ومؤرخ عشوائي حدث عن رجالات دمشق وخَبِرَهم منذ شهداء 16 أيار 1916 حتى آخر رجل يؤمن بالديمقراطية في دمشق، وحدث عن حواري دمشق ونشأتها وعائلاتها وطرائفها ونسائها واقتصادها وتجارها و"زعرانها"، حتى "الحميماتية" لم ينسَ ذكرهم، فأرخ لعاداتهم ومهنتهم الغرائبية!.

صادق البارودي كوكب الشرق أم كلثوم، ومطرب الملوك محمد عبد الوهاب، ورعى مواهب كثيرين منهم "صباح الدين أبو قوس" الذي عُرف بـ"صباح فخري" نسبة إليه

وفي الفن صادق كوكب الشرق أم كلثوم، ومطرب الملوك محمد عبد الوهاب، ورعى مواهب كثيرين منهم "صباح الدين أبو قوس" الذي عُرف بـ"صباح فخري" نسبة إليه، وكذا صاحب عظماء عصره من الشعراء، وفي بيته كتب أحمد شوقي رائعته "قم ناجِ جلقَ وانشد رسم من بانوا..".

أما النائب فخري البارودي فقد كان غصة في حلق الحكومات ورجال السلطة، ينتصر للضعفاء والمهمشين ويقود معارك ضارية على الفساد، ويدعو إلى النهضة بالاقتصاد الوطني، وينتصر للنساء من قبل النيابة ومن بعدها، حتى إنه أصدر كتاباً في السفور والحجاب، وخاض معارك مع الشيخ علي الطنطاوي بعدما جلب رقص السماح من حلب إلى دمشق، ومنها انتشر إلى أركان الدنيا، ولكن الخلافات كانت خلافات رجال آنذاك، فما زاد الطنطاوي عن أن مدحه وأثنى على وطنيته وغيرته على بلده وأهله، "ظاناً فيه رقة الدين" وحسب.

وأيام الوحدة السورية المصرية التي كان البارودي من أشد داعميها والداعين إليها، انقلب عليها، وكتب رسائل غاية في الجرأة والمكاشفة لجمال عبد الناصر، منتقداً بحدة قانون "الإصلاح الزراعي" على وجه الخصوص، ومحذراً من انهيار الوحدة التي لم تراعِ الظرف السوري وخصوصية السوريين.

ثلاثة كتب

الفريد والجديد في تحقيق إبراهيم الجبين لكتاب البارودي، أن المحقق وضع كتابين على كتاب المؤلف، وفق ما أرى:

الأول: يشمل المقدمة التي زادت عن 60 صفحة والتعقيب على الرحلة الذي يزيد عن المقدمة حجماً وزخماً، وفيهما قال الجبين كل ما يريد عن الرجل وسيرته ومغامراته، وهو أغنى بكثير وأشد جذباً من الكتاب المراد تحقيقه، ففي الكتاب الأصلي (الرحلة الأوروبية) نقرأ صفحات من سيرة ومذكرات البارودي، بينما نقرأ في المقدمة والتعقيب حياة البارودي وتوجهاته وكفاحه منذ صرخة ولادته حتى آخر إغماضة لعينيه.

وفي هذا الكتاب "المقدمة والتعقيب" عرَّفنا الجبين بوجوه البارودي المتعددة، ونقل بعض أشعاره الساخرة في موضعها تماماً، لكسر أي جمود محتمل أو جدية تفلُّ حبل المتعة، وتنقَّل بنا في منعطفات حياة الرجل، مختاراً المفصلي منها، غير زاهد بالشعبي الذي يصلح أن يكون فصولاً في حكايات ألف ليلة وليلة.

إلا أن القارئ اللماح - وأرجو أن أكون كذلك- لن يجد كبير عناء في القبض على إبراهيم الجبين متلبساً في توجيه بعض الوقائع لدعم آرائه وتوجهاته، وهذا من حقه طالما أنها واقعية لا نقصان فيها ولا زيادة، ومن أمثلة ذلك إسهابه في ذكر نقد البارودي لمرحلة الوحدة بين سوريا ومصر (ما يدل على أن الجبين لا يكن لها عظيم احترام!)، ومن ذلك ذكره غير مرة وفي أكثر من موقع الطبيب الشهيد عبد الرحمن الشهبندر (أحد أبرز سياسيي ومناضلي سوريا في النصف الأول من القرن العشرين) بإيحائية تدلل على إكبار عظيم.

أما الكتاب الثاني: فهو كتاب "الهامش"، وهو ما استوقفني كثيراً وأدهشني، فإنك حين تقرأ الكتاب الواقع في 440 صفحة، ستجد أن ربعه أو أكثر هو عبارة عن "هوامش" وضعها المحقق، لم يغادر فيها كبيرة ولا صغيرة إلا ووضع لها تعريفاً أو تفسيراً أو تعليقاً، حتى إنني صرت أذهب إلى الهامش قبل أصل الصفحة أحياناً، فالمحتوى الذي تضمنته الهوامش ثريٌّ فوق الوصف، ويشمل الشخصيات والتورايخ والأحداث والتعريف بالأماكن والحارات والعائلات وكل ما يخطر على بال القارئ وما لا يخطر، فهل تتخيل أن الكاتب سيعرِّفك إلى تاريخ الشركة المالكة للسفينة التي أقلت البارودي في رحتله من الإسكندرية إلى إيطاليا!

ولا يمكن أن يمر اسم من دون أن تجد له تعريفاً وافياً في الهوامش، حتى لقد نكَّد عليَّ عدم وجود تعريف بشخصيات قليلة جداً، يبدو أن الكاتب لم يجد عنها ما يكفي، ومن تلك الشخصيات "الطبيب أحمد راتب" أحد رفاق البارودي الثلاثة في العودة من أوروبا، ولما ظننت أنه الطبيب أحمد راتب الحراكي الشاعر والشخصية المتفردة في معرة النعمان، عدت إلى بياناته فوجدته من مواليد 1920، فأُسقط في يدي إذ إن عودة البارودي كانت عام 1912.

هامش أخير

مما كافح فخري البارودي بصدق وعناد من أجله، وأطنب إبراهيم الجبين في ذكره والتأكيد عليه، انتصار البارودي للفلاحين وحقوقهم والانتصاف لهم من الإقطاعيين، ومعاملتهم بندية تامة، وهو ما تسبب له بمشاكل كبرى مع "طبقته الاجتماعية" وبعض سياسيي عصره، وهذا يفند –بصدق وعن غير تصنع من الرجلين- مزاعم الطبقية والمناطقية والنظرة المتعالية- الدونية عند مثقفي سوريا وأهل المروءة الوطنيين.

أما المعادلة شبه مستحيلة التحقق، والتي حققها فخري بيك البارودي بانسيابية وتلقائية، فكانت إجماع العامة والخاصة عليه، فكان حبيب الناس العاديين ومن يزعمون أنهم فوق عاديين، الرجال والنساء، المدينيون والفلاحون، المثقفون والسياسيون والفنانون و"الزعران" و"الحميماتية".. كل دمشق، كل سوريا.