icon
التغطية الحية

"شارل مالك.. دور لبنان في صنع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"

2024.02.01 | 14:14 دمشق

ؤفغا
شارل مالك
 تلفزيون سوريا ـ إسطنبول
+A
حجم الخط
-A

كتاب شارل مالك: دور لبنان في صنع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، كتاب صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة "قضايا"، وهو من تحرير وتحقيق ​رفيق المعلوف وحبيب مالك وجورج صبرا.

يتناول الكتاب الذي جاء في 256 صفحة، حياة الدبلوماسي الكبير ذائع الصيت شارل مالك، صاحب الباع الطويل في الأمم المتحدة وأحد المؤسسين الفاعلين في صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كما يتناول لمحة عن حياته ونضاله في سبيل أفكاره حول العدالة والمساواة، ونبذة عن طريقة جمع تراثه بعد وفاته. ويمثل هذا المؤلَّف قيمة علمية لما كشفه من وثائق كانت مطموسة عن شارل مالك ونضاله وأفكاره.

قفءاؤ

يُستهل الكتاب بمقدمة للأمين العام السابق للأمم المتحدة الراحل كوفي أنان، يستعرض فيها مفهوم حقوق الإنسان بوصفه ركيزة العيش والتعايش البشريّين، اللذين يمثلان المحكّ لكل ما تطمح الأمم المتحدة إلى تحقيقه عبر رسالتها العالمية الهادفة إلى السلام والنموّ، كما يتناول الإعلانَ العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنّته الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1948، وقد أدى "الدبلوماسي اللبناني المرموق" دورًا مهمًّا في وضع نصه، معتبرًا أنه يجسّد واحدًا من أعظم إنجازات القرن العشرين، فقد صمد أمام اختبار الزمن، وما برح يكتسب مزيدًا من القوة الخُلُقية والقانونية سنة بعد أخرى، كما أن الوفود من مختلف دول العالم لمّا تزل تعلّق وتصوّت على كل مادّة فيه، بل على كل كلمة من مسوّدته منذ تبنّيه، وقد تُرجم إلى أكثر من مئتَي لغة، وباتت مبادئه تشكّل جزءًا لا يتجزأ من نسيج الحياة القومية والدولية، ونتجت منه مجموعة لا يُستهان بها من القوانين، وأدّى إلى تكوين وعي عالمي حول أهمية حقوق الإنسان.

ويُبدي أنان رأيه في أن الأمم المتحدة لا تزال قاصرة عن تحقيق الرؤية الثابتة للإعلان، المتمثلة بتأمين كل الحقوق الإنسانية لكل الناس، وأنها أمام تحدّي استدراك التقصير، وإلغاء المسافة بين الكلام والواقع في حياة الناس اليوميّة.

رحلة حقوق الإنسان التاريخية

ثمة إنجازات مهمة عبر التاريخ في مجال حقوق الإنسان، مثل "الماغنا كارتا" و"إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الصادر عن الثورة الفرنسية و"الإعلان الأميركي للحقوق"، إضافة إلى ما كتبه الفلاسفة والمفكرون، وجميعها إنجازات نبعت من نظرة حضارية أو قومية محددة، أو استجابت لحركات ثورية محلية أو إقليمية، فلمّا صدر "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 1948 انتظم أفضلُ ما في تلك الإنجازات في وثيقة واحدة جامعة، أمميّة المنشأ والمرمى، حوّلت شتيت أفكار وخواطر أدبية شائعة إلى عمارة فكرية متماسكة لها طابع "المانيفست" الذي وُضع لينفّذ. على أن "شرعة حقوق الإنسان" لم تجد سبيلها إلى التطبيق الملزم الحازم بسبب النزعات السلطوية الراديكالية التي حالت دون إدراجها في صلب القوانين الدستورية، على الرغم من تحوّلها عرفًا وجوديًّا يتمتع بامتياز القانون، بل يمكن القول إنها أصبحت اليوم عنوان حضارة.

إن عبارة "حقوق الإنسان" هي أكثر العبارات ورودًا في أيامنا المعاصرة، وبمختلف لغات الأرض، في وسائل الإعلام والصحافة والمطبوعات الفكرية والثقافية والتقارير السياسية والدبلوماسية والمطارحات والمناظرات والمحاضرات والأندية والمحافل الدولية ومحاضر الأزمات وملفات القضايا العالمية الرئيسة والنزاعات والحروب الإقليمية كافة، وإذا كانت المصالح الاقتصادية ودواعي الأمن القومي في مرتبة الاهتمام الأعلى في الدول الكبرى، فإن حقوق الإنسان غدت في العقدين الأخيرين جزءًا أصيلًا من استراتيجيتها السياسية، وأقرب شاهد على ذلك المقاطعة الدولية للنظام العنصري في جنوب أفريقيا قبل مانديلا، وضغوط الغرب على الصين وبورما وغيرها من الأنظمة التوتاليتارية، وتقويض الإمبراطورية السوفياتية والدول الشيوعية التابعة لها في آسيا وأوروبا انطلاقًا من تعاطيها مع حقوق الإنسان فيها وفي الدول التي تهيمن عليها.

كانت دولٌ سبّاقةً إلى إدراج "حقوق الإنسان" في دساتيرها، والمتوقع إقدام السواد الأعظم من الحكومات المنتسبة إلى الأمم المتحدة على إجراء مماثل في مطلع القرن الآتي، فهذا العنوان الحضاري العريض قد انطبع في ضمير الإنسانية جمعاء، وأسَّسَ "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" لنظام دولي جديد تتوازن في نظرته المتكاملة إلى الحياة والكون والإنسان مفاهيم الحريّة والعدالة، وهو ما يقطع في اعتباره أهم وثيقة دولية صدرت خلال القرن العشرين.

سنون طوال ولم يخبُ بريق الاسم

مع مرور ست وسبعين سنة على صدور الإعلان التاريخي المشهود، لا تزال هذه الذكرى التي تحتفل بها الأمم المتحدة والهيئات والمؤسسات الدولية في العالم بأسره، تقترن باسم شارل مالك، الرجل الذي كان له الدور الأبرز في تصميم ذلك الإعلان، وتعيين مراجعه، وإدارة اللجان الدولية المعنيّة به، وتذليل تناقضاته، وضبط مناقشاته، واستخلاص قراراته وتوصياته، وحصر مواد شرعته، وإحكام صياغتها ووضع مقدّماتها، ومن ثم شرحها والدفاع عنها في المحافل الدولية، السياسية والأكاديمية. وهو عمل دؤوب شاقّ، استمرّ أعوامًا في مغالبة مطامع الأقوياء داخل الأمم المتحدة وخارجها ومسالك الرأي العام حتى اكتملت عناصره، وحاز الإنسان عهدة من أرفع هيئة دولية تعترف له بحقوق أساسية ضدّ الحرب والظلم والمهانة والتجويع والتهجير والرق والكبت والجهل والحرمان والتعصّب والاستبداد والتمييز العرقي والجنسي والديني.

عمل دؤوب

لم يكن تأريخ حياة شارل مالك وكفاحه في سبيل حقوق الإنسان بالأمر اليسير، نظرًا إلى ضخامة الوثائق وشتاتها بين واشنطن ونيويورك وبوسطن ومحفوظات الأمم المتحدة وجامعة هارفرد ومكتبة الكونغرس، فضلًا عمّا تحتوي عليه محفوظاته الشخصية من ملفّات حساسة، وألوف الصفحات المدونة بخط يده والمودعة في أحد المصارف الأميركية الكبرى، وهي تؤلف مجموعة يومياته ومذكراته الفريدة التي تعهّدها بصورة يومية منتظمة طيلة ما يزيد على ستين عامًا.

وقد جمع محررو الكتاب ومحققوه مدةَ أربعة أشهر كاملة ما تيسّر من أوراقٍ وخُطبٍ ومحاضرَ وملاحظاتٍ وانطباعاتٍ مدونة وصورٍ مناسبات ومقالات منشورة ومحاضرات ورسائل، ثم دفعوا بها إلى نخبة من تلاميذ مالك والعاملين في ميدان حقوق الإنسان، فوقع اختيارهم على عيّنات منها، معظمها بالإنكليزية، وقد جرى تعريبها.

أقسام الكتاب

تؤلف النصوص المشار إليها مع اللقطات المصورة الجانب الوثائقي من هذا الكتاب، وقد كتب الصحافي صديق عائلة مالك، الأستاذ رفيق المعلوف، القسم الأول من الكتاب، نظرًا إلى علاقته الفكرية الوطيدة بشارل مالك، وإلمامه العميق باللغة، بعد أن حصل من كاتب المقدمة ابن شارل مالك، حبيب، على ذكريات عن شخصية والده ووثائق جمعها من مصادرها في الولايات المتحدة الأميركية، مضافة إلى معلوماته الخاصة ومحفوظاته الغنية، فكتب المعلوف ما يشبه القصة عن الوقائع والظروف الموضوعية التي سبقت "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، والملابسات التي رافقت صدوره والتطورات التي أعقبته، فلعل ما قدّمه الابن إلى قرّاء العربية يكون فاتحة الآثار لمن يتتبع آثار والده من أصدقاء مؤمنين بفكره ورسالته الإنسانية، وحاملين أرفع مشاعر التقدير والاحترام لرجل وضع لبنان بعد الحرب العالمية الثانية على خريطة الأمم المستقلة الفاعلة في الحياة المعاصرة، وقد أمل حبيب مالك أن يُصدر بدعمهم ستة عشر مجلدًا تحوي الآثار العربية الكاملة لشارل مالك والتي أشار إليها في كتابه المقدمة: سيرة ذاتية فلسفية، فضلًا عن كتاب مذكراته الشخصية والسياسية الذي يختصر عددًا كبيرًا من المجلدات من وقائع يومياته.

أما القسم الثاني فتجميعي لمداخلات شارل مالك وخطبه ومقالاته ومحاضراته بحسب ترتيبها الزمني.

سيظل لبنان مدينًا لشارل مالك، الشجرة الفارعة التي لا ولن تموت؛ لأن جذورها ضاربة في الأرض، والرسالة الخالدة التي لا ولن تسقط ما دامت مبادئها راسخة في الضمائر.