سيرة طفل قدوته "الجهاديين".. لاجئ سوري يغازل اليمين الفرنسي بكتاب

2022.10.14 | 04:32 دمشق

لاجئ سوري يغازل اليمين الفرنسي
+A
حجم الخط
-A

يبدو أن بعض اللاجئين عندما يتحولون للكتابة بالفرنسية يتحلّلون من مسؤولياتهم في الإنصاف والحياد وخصوصاً عندما يكتبون عن بلدانهم وثقافاتهم بمنطق المنشقّ الغاضب.

في كتاب "الإرهابي الصغير" المنشور بالفرنسية والصادر في باريس عام ٢٠١٨ يقدم اللاجئ السوري الشاب عمر سليمان قصّته الشخصية للفرنسيين كزهرة أينعت في ديسةٍ من الشوك. ويدرك القارئ منذ البداية أن الكاتب يريد من كتابه أن يكون جواز سفرٍ ليس إلى ديار الفرنسيين فحسب، بل إلى قلوبهم أيضاً.

ولد عمر سليمان في القطيفة قرب دمشق وعاش حياته جلّها بين سوريا والسعودية، لكنه يوضح في غلاف الكتاب أنه يكتب اليوم بصفته شخصاً فرنسياً.

في بداية كتابه يصوّر عمر نفسه بصورة الناشط الذي يشارك في الثورة السورية (من دون أن يقول أين ومتى وكيف) والذي تتعقّبه "الخدمة السرّية" للقبض عليه!

لا يُسهب عمر بالحديث عن مشاركته المزعومة في الثورة كثيراً لكنه يوضّح فقط كيف ساعده ذلك في الحصول على اللجوء السياسي من السفارة الفرنسية في عمّان في آذار عام ٢٠١٢ في غضون ساعات قليلة، حيث تكفّلت السفارة بنقله إلى المطار بسيارةٍ دبلوماسية ومن ثم السفر إلى باريس دونما تأخير. ثمّ سرعان ما ينتقل عمر للدخول في لبّ الموضوع الذي وضع الكتاب لأجله وهو التجارب الشخصية المؤسفة التي نفّرته من الدين الإسلامي ودفعته للخروج منه.

لقد ساق القدر عمر سليمان للعيش في السعودية بين عامي ١٩٩٩ و٢٠٠٣ حيث عثر والداه على عملٍ هناك. وكانت تلك مصادفة غير سعيدة في حياته كمراهق يمر بمرحلةٍ عمرية حسّاسة ستتشكل فيها قناعاته في العالم.

يسرد لنا عمر ما عاشه شخصياً في أثناء هجوم الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١ حيث شهد ردات الفعل الحماسية للمواطنين السعوديين وفرحهم بالهجوم حتى إن عمر المراهق تأثر بهم وصار يحلم أن يكبر ليصبح إرهابياً يقاتل أميركا. بل فكر أن يسافر من فوره للجهاد في أفغانستان مع أسامة بن لادن فيكون "إرهابياً صغيراً" وهي العبارة التي جعل منها عنواناً لكتابه.

ومن ذكريات عمر أيام وقوع الهجوم على برج التجارة العالمي في نيويورك أنه تعجّب كيف يكون رجلٌ رزينٌ وفخيم الصوت كأسامة بن لادن قاتلاً بهذه الوحشية، لكنه ينقل عن أمه أنها دعت الله أن يحفظ بن لادن وعن أبيه أنه تمنّى لو يسافر إلى أفغانستان من أجل الجهاد. كما أن رفاقه في المدرسة ابتهجوا فرحاً لمقتل يهود ومسيحيّين في الهجوم، بل وردّدوا من القرآن تلك الآيات التي تحضّ كما قالوا على قتل أتباع الديانات الأخرى.

بينما يقول إنه ذهب للحج ودعا لأسامة بن لادن بالنصر نراه في الوقت نفسه يتساءل على طريقة المُعتدلين كيف يمكن لابن لادن أن يقتل مدنيين أبرياء

وفي أثناء أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية ينقل عمر عن أستاذ أردني في السعودية أنه نظّم حملة جمع تبرّعات في المدرسة بعنوان: ادفع ريال لقتل يهودي. كما يقول عمر إنه شاهد الشيخ يوسف القرضاوي على قناة الجزيرة يدعو لمقاطعة البضائع الأميركية ويصف اليهود والمسيحيين بأنهم أعداء المسلمين.

ويقع عمر سليمان في تناقضاتٍ سردية عديدة، فبينما يقول إنه ذهب للحج ودعا لأسامة بن لادن بالنصر نراه في الوقت نفسه يتساءل على طريقة المُعتدلين كيف يمكن لابن لادن أن يقتل مدنيين أبرياء. كما نرى عمر يؤدي طقوس الحجّ بورعٍ وتقوى ومع ذلك يتساءل على طريقة التنويريّين عن المنطق العقلي لتقبيل الحجر الأسود وللطقوس الأخرى التي ينطوي عليها الحج الإسلامي. وبينما يتطور طموحه ليصبح إرهابياً لا يتوقف عقله عن نقد المجتمع الإسلامي بانتقائية بشعة لا ترقى لأن تكون مجرد منطق فتى صغير. نشعر أننا إزاء راويَتين للسيرة الذاتية، وإن كان واحداً فلا بد أنه مصابٌ بانفصام الشخصية.

من خلال حياة عمر الخاصّة التي يحكيها لنا في كتاب "الإرهابي الصغير" يشعر القارئ أن العيش في بيئةٍ مسلمة كالدخول في حلَبة مصارَعة، حيث يلطم الزوج زوجته من أجل الطاعة، ويصفع المعلّم تلاميذه من أجل الدراسة، ويضرب الأب أولاده من أجل الصلاة؛ كل ذلك تطبيقاً لأحكام الدين الإسلامي.

ويحرص عمر في مناسباتٍ متفرقة على إيراد كلّ الأحاديث النبوية التي من شأن من يطّلع عليها أن يحتقر الإسلام سواء كانت تلك الأحاديث مرتبطة بالقتال وفقه المعارك أم تلك التي تعكس مفاهيم كانت سائدة في عصورٍ انقضت، وسواء كانت تلك الأحاديث صحيحة أم ضعيفة، خاصّة أم عامّة، صادقة أم كاذِبة؛ يوردها عمر جميعها بغلافٍ من الموثوقية على أنها هي الإسلام عينه ولا شيء غيره من قبيل الحديث الغريب عن وجوب شرب بول الإبل كعلاج لآلام المعدة والذي لم أقرأه في حياتي إلا عندما طالعت كتاب عمر بالفرنسية. وكذلك الحديث الذي يقول إن النساء ناقصات عقل وأنّ كلّ ما هو جديد من مُخترَعات بدعةٌ وضلال وأنّ المسلم الذي يبدّل دينه يجب أن يُقتل، وغيرها من الاقتباسات التي لا تزيد القارئ إلا نفوراً من الإسلام والمسلمين.

عندما غادر عمر مع عائلته السعودية عام ٢٠٠٣ كان سعيداً أنه غادر بلاد "بول الإبل" وكشف مع انتقاله إلى فرنسا عام ٢٠١٢ أنه ترك الإسلام كلّياً وصار ملحداً، ولكن مع ذلك فقد ملأه منظر كنيسة نوتردام لدى وصوله إلى باريس جلالاً وأعطاه إحساساً بالسلام. كما يشبّه رحلة هروبه من دمشق بقصّة بولس الرسول عندما غادر دمشق خوفاً من اعتقال الحاكم الروماني له. كيف يتمرّد شخص على الإسلام ويصير ملحداً ثم يمضي ليُعجب بالمسيحية ويغازل رسلها؟ أليست المسيحية في النهاية ديانة إبراهيمية شقيقة للإسلام؟ لقد نسي عمر أو تناسى أن المسيحية مثل الإسلام ومثل أي دين آخر فيها نصوص يمكن للمتشددين أن يفسروها على أنها دعوات للعنف والتخلّف العقلي وقمع المرأة. وأن الحروب التي خيضت باسم المسيح في التاريخ أكثر بكثير وأشدّ دمويّة من تلك التي خيضت باسم محمد. من الواضح أن معلومات عمر عن الأديان الأخرى وعن تاريخ الحروب الدينية محدودة كثيراً، بل حتى معرفته بالإسلام نفسه لا تتعدّى ما عاينه هو شخصياً في بيئةٍ يبدو أنها كانت متزمّتة ومغلقة.

ومن باب الإنصاف علينا أن نضيف أن هناك عوامل نفسية لعبت دورها في تشكيل الآراء الحدّية الغاضبة لعمر سليمان. فهو عاش تحت سلطةٍ أبوية قاسية حيث تعرّض لضرب أبيه في المنزل، والتحرّش الجنسي في المدرسة، وقمع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأماكن العامة في مدينة الرياض.

كتاب عمر لو أخذه أحدهم على محمل الجد - وأنا أشك أن باحثاً جدّياً سيفعل ذلك - فإنه يشكل خدمةً مجانية لليمين المتطرف ودعاة الإسلاموفوبيا في الغرب

قد نتفق مع عمر سليمان على كثيرٍ من أوجه النقد للموروث الديني الذي يعاند منطق التطور ويسير عكس اتجاه الحياة المعاصرة، ولكن الاكتفاء بالنقد المريح للنصوص الدينية المختلَف على تفسيرها وللسلوكيات البغيضة لدى بعض المسلمين - مع الإيحاء بأن الديانات والحضارات الأخرى معافاة مما لدى الإسلام من مشكلات - هو أمر غير عادل. كما أن كتاب عمر لو أخذه أحدهم على محمل الجد - وأنا أشك أن باحثاً جدّياً سيفعل ذلك - فإنه يشكل خدمةً مجانية لليمين المتطرف ودعاة الإسلاموفوبيا في الغرب ويسهم في خطابات الكراهية الظالمة التي يتعرض لها المهاجرون واللاجئون المسلمون في أوروبا، وفي فرنسا خصوصاً حيث وصل عمر. سوف يكتشف أن اسمه وحده قد يحرمه فرصة عملٍ يستحقها. وسوف يستمر كثيرٌ من الفرنسيين بالنظر إليه كخصمٍ مسلم - حتى لو كان ملحداً - مادام اسمه عمر. كما أنّ مجرّد لون بشرته قد يغلق في وجهه كثيراً من الأبواب قبل أن يقول شيئاً عن قناعاته بخصوص الدين.

ولنا أن نسأل عمر ماذا لو أنه ولد وعاش طفولته كفردٍ في عائلة مسلمة في إحدى الضواحي الفرنسية حيث يتعرض المسلمون للتحقير في وسائل الإعلام وتستخدمهم الأحزاب في دعايات التخويف والكراهية. أما كان سيحلم أيضاً بأن يصبح إرهابياً صغيراً؟ لعلّه لا يعلم أن فرنسا صدّرت بالفعل خلال الثورة السورية عدداً كبيراً من الإرهابيين الذين انضموا إلى داعش وكانوا أكثر تطرفاً وخطراً من كثيرٍ من المهاجرين غيرهم. الأمر لا يقتصر إذاً على السعودية والعالم الإسلامي فالخلل قائم أينما كان في عالمنا الحديث وأسباب ولادة التطرف موجودة في الغرب قبل الشرق.

وقد نفهم أن عمر الطفل امتلأ عقله الصغير - دونما ذنبٍ منه - بالرغبة في قتال أميركا وأن يصبح إرهابياً صغيراً، لكنه الآن كبُر وعليه أن يفهم أن العالم الذي يعيش فيه، والذي أوصله عندما كان طفلاً لهكذا تفكير، هو عالم يتّسم بدرجاتٍ عالية من الظلم والقهر. يعيش عمر في باريس اليوم ولا شكّ أنه صار يدرك المسؤولية الأخلاقية للغرب عموماً في هذا الشرخ العالمي بين الشعوب والحضارات، بما في ذلك المسؤولية السياسية عن نشوء الحركات الإرهابية في بلدانٍ لا مستقبل ينتظر أطفالها وشبابها، بلاد محرومة من التنمية والتطور، وتتعرض للنهب والإذلال على أيدي الدول الكبرى ومن ضمنها طبعاً فرنسا التي لجأ عمر إليها ويعتقد واهماً أنه صار في الجنة.