سيرة المُخْبِر الأشْوَس (3)

2019.10.28 | 15:06 دمشق

350.jpg
+A
حجم الخط
-A

سيرةُ المُخْبِر أبي فستوك مثل سيرة الحَيّة؛ يمكن أن تبدأ، وليس مِنَ السهل أن تنتهي. بَدَا لنا، خلال الفترة التي تَفَرّغَ فيها لإيذائنا -وامتدت بين عامي 1990 و2011- أنه بدأ بكتابة التقارير متطوعاً، لأنه غير ذي خبرة أو مِرَان، ثم بعد أن صارت لديه تجربة و(C.V.) حافل، دخل باب الاحتراف. 

في عالم الصحافة الاحترافية هناك شيء اسمه "حَجْم العمل"، إذ يُطْلَبُ من (الصحفي/ الموظف) تقديمُ عشرِ مقالات في الشهر، لقاء راتبه، وكلُّ ما زادَ عن عشرٍ يتقاضى عليه أجراً إضافياً يسمونه "الاستكتاب".. هذا ينطبق على شغل المُخبرين، مع خلاف بسيط في التسمية بين "تقرير" و"مقالة".    

في أواسط التسعينات، سَمحت الحكومةُ باستيراد حافلات صغيرة ذات 12 راكباً، وصارت تنقل الركاب إما داخل المدن الكبيرة، أو بين مدينة وأخرى، عُرف الواحدُ منها باسم (Service)، وتُجْمَعُ على "سرافيس".. وكانت السرافيس الأكثر نشاطاً وحركة في منطقتنا هي سرافيس المعرة، الواحدُ منها يذهب إلى وجهته ويؤوب منها بسرعة يَصِفُهَا السائقون بكلمتين هما صَدّ، رَدّ.. بعد دخول المُخبر أبي فستوك عالَم الاحتراف، أصبحنا، أنا وتاج الدين الموسى وعبد القادر عبدللي وعبد العزيز الموسى، نذهب إلى فروع الأمن ونؤوب منها مثل سرافيس المعرة، صَدّ، رَدّ.   

إذا أنت مشيتَ في شوارع المدن الأوربية الكبرى، عدة أيام، أو أسابيع، أو شهور، يستحيل أن تصادفك مشاجرة إفرادية، أي بين شخصين، أو جماعية، أي بين رجال أسرتين تستخدم فيها العصيُّ والجنازيرُ وأخشابُ القَبَّان، وأحياناً السكاكين والمسدسات والروسيات.. وأما في بلادنا فهذا الأمر شائع، وفي كثير من الأحيان لا يعني انتهاء المشاجرة أنها انتهت بالفعل، فقد يتغلب أحدُ المتشاجِرَيْن على خصمه، والخصم ينسحب ويبدأ بالتخطيط للانتقام، ويكون الانتقام، غالباً، بأن يُرسل المهزومُ إلى المنتصر مجموعة من الشبان الأشداء، يكمنون له عند عَدْوَةِ الطريق، ويدعسونه (قَتْلة.. حَشْك ولَبْك)، وبعد انتهاء العدوان وذهاب الرجل إلى البيت يتصل به خصمُه ويسأله ببرود: شلونك خاي؟ إن شاء الله ما تآذيتْ بهالقتلة؟! 

هذه العملية تسمى "التعليم"، ومغزاها أن فلاناً (عَلَّم) على علان، أهانه، وأذله، ثم أفهمه -صراحةً- أنه يقف وراءها. 

في يوم من الأيام -من سنة 2004 على ما أذكر- (عَلَّم) عليّ أبو فستوك (تعليمة) قوية. وإليكم القصة بالتفصيل: 

دعيتُ وبعضُ الأصدقاء الشعراء للمشاركة في أمسية أدبية بمركز "بِنِّشْ" الثقافي. ألقيتُ في الأمسية ثلاث قصص قصيرة إحداها تحمل عنوان "وقائع ما جرى تحت البطانية". بطلُ القصة فتى يذهب لزيارة خطيبته في السهرة، وبدلاً من أن يَجلس مع خطيبته، ويناغشها، ويستنفع منها ببوسة، أو ضمة، أو حتى لمسة يد، تلتف أسرتُها حوله، ويَحُوْلُوْنَ بينهما، ومن كثرتهم -وغلاظتهم- يصبح وقوعُ بصره على وجهها صعباً. وذات يوم تخطر له فكرة عبقرية. يقول لأهل الخطيبة: آحّ أنا بردان، دخيل الله صَقَّعْتْ (مع أننا في شهر آب).. فيغلقون نوافذ الغرفة، ويأتون ببطانية عتيقة، يمدونها فوق سيقانهم، كما في سهرات الشتاء، ويبدؤون بتداول الأحاديث المسلية، وأما هو فلا يفهم من أحاديثهم شيئاً، إذ يبقى فكرُه مشغولاً بدراسة إحداثيات رِجْلَي خطيبته المرتسمة على سطح البطانية، ويمد قدمه باتجاهها، مؤملاً أن يحصل، في خاتمة المطاف، على ملامسة بمشط القدم، أو بالكعب، وهذا أقصى ما يمكن لشاب مراهق متوتر أن يحصل عليه في مثل هذا الجو العجيب. وفي لحظة صاعقة، يُمسك ابن حميه بقدمه، ويرفع عنها البطانية، ويتهمه بسوء النية، ويقول له: عيب عليك يا صهري!   

الأمسية، بشكل عام، كانت رائعة، الحاضرون استمتعوا بالأشعار التي ألقاها زملائي، والقصص التي ألقيتُها، ولا سيما قصة البطانية.. وقال أحد الشبان إن الأدب الساخر قريب من القلوب، ومن الواقع، بدليل أنه، شخصياً، عانى من حالة قريبة من هذه أثناء خطوبته، ووعدني أن يكتبها ويرسلها إليّ بالإيميل.

مر أسبوع على هذه الحادثة، تقريباً، وإذا باثنين من عناصر الأمن العسكري يطرقان بابي ويطلبان مني مراجعة العميد رئيس فرعهم الذي يطلقون عليه لقب: المعلم، في يوم غد.
لن أحدثكم عن الخوف الذي استبد في الوقت الذي سبق مراجعة المعلم، فهذا الأمر تناوله كتابٌ كثيرون قبلي، وياسر العظمة قدم تمثيلية عن مخاوف مواطن يُسْتَدْعَى لمراجعة فرع أمن. المهم، ذهبتُ إلى الفرع، وقابلتُ "المعلم" الذي أظهر نفسه أمامي بمظهر متحضر، وحدثني عن متابعته، وأسرته، لأعمالي الصحفية والتلفزيونية والإذاعية، وأبدى رغبته بأن يعرف رأيي بـ "الوضع العام" في ظل القيادة التاريخية الحكيمة للقائد الصغير بشار ابن القائد الكبير حافييظ، إلخ.. وعندما وصلنا إلى "الزبدة" أخرج صورة فوتوكوبي لقصة "البطانية"، وسألني عن ملابسات ما جرى بشأنها في مدينة بنش. قلت مندهشاً: ماذا جرى؟ قال: أنا أسألك. قلت: لم يجر أي شيء، فهي قصة عادية، هل قرأتَها أنت؟ قال: نعم قرأتُها. هي قصة ظريفة، وأضحكتني، ولا يوجد فيها شيء يلفت النظر.. وبصراحة أنا استغربت أن يُكْتَبَ بها تقرير. على كل حال دعنا نعتبر هذا اللقاء من باب التعارف. وإليك بطاقتي وعليها أرقام هواتفي، وأرحب بك في مكتبي متى تشاء. 

لم أصدق، وأنا أخرج من باب ذلك الفرع الحقير، أنني خرجت.. تنفست الصعداء وذهبت إلى البيت مسرعاً لكي أطمئنَ زوجتي، وأؤكد لها أن القصة بسيطة (أو فاضِيّة على قولة أهل جسر الشغور) ولا توجد تهمة سياسية أو أمنية.. 

ولكن.. حينما دخلت المنزل، كان الهاتف يرن. رفعتُ السماعة وقلت: ألو. فجاءني صوت أبي فستوك يقول لي: كيفك أبو مرداس؟ بشرني، إن شاء الله الأمور مرت على خير؟ 
سألته: عن أية أمور تتحدث؟ 

قال: ولو يا أبو مرداس، أتظن أنني لا أعرف أين كنت؟!

(للحديث صلة).   

كلمات مفتاحية