سيرة المُخْبِر الأشْوَس (2)

2019.10.21 | 17:38 دمشق

shadow.jpg
+A
حجم الخط
-A

أتابع، هنا، ما بدأتُه من حديث عن المخبر الذي أطلقتُ عليه لقب "أبو فستوك". وأقول: بالنسبة إلينا، نحن أدباءَ إدلب، تَحَوَّلَ ذلكم المخبرُ الأشوسُ إلى مصدر نكد دائم، وذلك بمقاربة معنى قول "المتنبي":

ومِنْ نَكَدِ الدنيا على الحُرّ أن يَرى

عــدواً لـه مـــا مِـــــنْ صـداقـــتِـــــــــــــــــهِ بُدُّ

أقول "مقاربة المعنى" لأن المتنبي تحدث في بيته عن الحُرّ، ونحن الذين عشنا تحت حكم عسكر حافظ الأسد ومخابراته لم نكن أحراراً قط، بل كنا نحاولُ حُريَّةً فنُعَادَى، ونُلَاحَقُ، ونُهَانُ، ونُسْتَدْعَى إلى فروع الأمن لنُسْأَلَ عن أشياءَ فعلناها، لماذا فعلناها، ونلامَ على أشياء لم نفعلها، لأننا لم نفعلها! وأبو فستوك لم يكن في الأساس عدونا (ما لَنَا وما لَهُ؟)، ولكنه هو الذي اختار أن يكون عدونا، ونحن، بمجرد ما عرفنا طبيعته العقربية نفرنا منه، وابتعدنا عنه، ولكنْ، لم يَكُنْ لنا مِنَ "التعامل معه" بدُّ..

جرت العادة في سوريا التي يحكمها حافظ الأسد (ثم وريثُه) أن يُزْرَعَ المخبرُ في مؤسسة أو دائرة حكومية، وتكونَ وظيفتُه أن (يَعمل ويَترك) بالموظفين والإداريين والمدير التنفيذي، وحتى بالمدير العام.. وأما حالةُ أبي فستوك فكانت معكوسة، فقد جاء من المؤسسة ذاتها، مؤسسةِ اتحاد الكتاب العرب، ليعمل مخبراً، فما كان من الفروع الأمنية المحلية "الإدلبية" إلا أن رحبت به، بل (فَرِحَتْ به، رَقَصَتْ، على قدميه)- على حد تعبير نزار قباني ونجاة حسني البابا في أغنية "أَيَظُنُّ"- ووجدت، أعني المؤسسات الأمنية، أن الحظ ابتسم لها، وأرسل إليها مَن يتكفل باقتحام عالم الأدباء (الذين يُحيطون أنفسهم عادةً بهالات من الغموض) ويُمطرهم بالتقارير في آلاء الليل وأطراف النهار، ولا يهم تلك المؤسسات، بالطبع، أن يكون ما يكتبُه أبو فستوك بحق الأدباء صحيحاً، أو مُفَبْرَكاً، ما يهمها هو أن يجري تنفيذ سياسة نظام الأسد الأمنية المتعارف عليها، وهي: تحويل الإنسان البريء إلى متهم، وبناء إضبارته (فيشه) تقريراً وراء تقرير، حتى يبقى مُكَلْبَجاً، وجاهزاً للاستدعاء، ثم يؤتى به، عند اللزوم، ليُؤَاخَذَ لقاء ما هو مكتوب في إضبارته، ويُحَاسَبَ عليه حساباً عسيراً.

كان أبو فستوك، في غمرة نشاطه المحموم في كتابة التقارير، يسافر إلى دمشق مرة كل شهر على الأقل، ويُطْلِعُ رئيسَ اتحاد الكتاب، وعضوَ المكتب التنفيذي "سين" المختص بالتعامل مع الأجهزة الأمنية العليا، على مستجدات الحالة الأمنية المحلية، والأعمال الإجرامية التي نرتكبها نحن أدباء محافظة إدلب بحق الوطن وقائده، ويتزود بتوجيهاتهما، ويعود إلى ميدانه الأصلي، إدلب، مرفوعَ الجبين.

لستُ أدري إن كان من واجب الأديب أن يشارك في أمسيات أدبية يلقي خلالها بعضاً من إبداعاته الجديدة في المراكز الثقافية، أو في مقرات اتحاد الكتاب.. كنا، نحن أدباء محافظة إدلب نشارك في مثل هذه الأمسيات حينما نُدعى إليها. أتساءل -الآن- عن جدواها فأراها قليلة، إذ أن عدد الأشخاص الذين يأتون لحضور الأمسيات لا يتجاوز الخمسين، في أحسن الأحوال، وأما المادةُ الأدبية التي تنشر في مجلة محترمة فتصل إلى

أبو فستوك ينظر بعين أمنية لا تخطئ إلى نشاطات المراكز الثقافية المنتشرة في أنحاء المحافظة، ويرسل ملاحظاته مباشرة إلى فرع الأمن العسكري!

عدد كبير من القراء، أضف إلى أنها تتحول إلى مَرجع يُقرأ في قابل الأزمان.. وأما مضار الأمسيات الأدبية فكانت كثيرة، وأهمها أن صاحبنا أبا فستوك كان يعشق الأمسيات عشقاً ذا طبيعة كَلْبِيّة. بمعنى من المعاني؛ إن استعدادنا نحن أدباء إدلب للمشاركة في أمسيات أدبية كان يُدخلنا في منافسة، بل في تصادم معه، ويُربك المسؤولين عن المراكز الثقافية ويضطرهم للاشتراك في مناوشات أمنية هُم في غنى عنها.. سيما وأن أبا فستوك ينظر بعين أمنية لا تخطئ إلى نشاطات المراكز الثقافية المنتشرة في أنحاء المحافظة، ويرسل ملاحظاته مباشرة إلى فرع الأمن العسكري!

إنني أكتب هذه المعلومة في موقع إلكتروني، وتكاد الصلة المباشرة بيني وبين قرائي أن تكون معدومة، ولكن، لو كنت أذكرُ المعلومةَ في جمع من الناس لانبرى لي منهم واحد وقال لي:

- وَقِّفْ عندك. أنت لا شك تبالغ. هل يعقل أن يكتب تقارير عن الواقع الثقافي لـ "الأمن العسكري"؟!

أقول: نعم. وحياة الغوالي، لـ الأمن العسكري. وأرجو أخذ العلم أن (الشؤون الثقافية/ الأمنية في محافظة إدلب) قد انتقلت، اعتباراً من قدوم أبي فستوك إليها، إلى هذا الفرع بالذات.. وهذا الأمر لا علاقة له بالاختصاص، وإنما لأن رئيس هذا الفرع قَرَّبَ أبا فستوك منه، وزوده بأرقام هواتفه، وأعطى أوامره إلى حراس الباب، والسكرتاريا بأن يسمحوا له بالدخول فور وصوله إلى الفرع، بموعد أو دون موعد.. لا، بل إن هناك باباً جانبياً كان رئيسُ الفرع قد فتحه ليكون دخولُ بعض الزوار إليه مباشراً، دون المرور بالباب الرئيسي ومكتب الاستعلامات، وقد سُجِّلَتْ على هذا الباب أسماء قليلة كان اسم أبي فستوك أحدها.

ربما كانت سوريا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تضع، لدى اختيارها رجلاً ليكون مديراً لمركز ثقافي ما، شرطاً أساسياً، هو: ألَّا يكون مثقفاً! نعم، ومَنْ كانت لديه ريبة من هذه المعلومة فليستعرض أسماء الذين تولوا هذه المناصب في سوريا منذ سنة 1970، ولسوف يعثر على ثلاثة مثقفين أو أربعة تولوا رئاسة مراكز ثقافية، منهم أبو زيدون رفعت عطفة، بالطبع.

في يوم من الأيام، أعلن مدير أحد المراكز الثقافية المحلية عن إقامة مهرجان لأدباء محافظة إدلب، وكان ملفتاً للنظر أننا، تاج الدين الموسى وأنا، مُسْتَبْعَدَان. وعرفنا، خلال وقت قصير، أن الاستبعاد كان بناء على توجيهات شفوية من رئيس فرع الأمن العسكري لمدير المركز -بناء على تقرير من أبي فستوك- والسبب أننا موقعان على بيان المجتمع المدني الذي وُقِّعَ، بحسب ما قال الأستاذ عبد الحليم خدام نائب ابن حافظ الأسد، لأجل جزأرة سوريا وتسليمها لقمة سائغة للصهيونية!      

(للحديث صلة)

كلمات مفتاحية