سيرة المُخْبِر الأشْوَس (1)

2019.10.08 | 03:12 دمشق

131120060826261-1024x827.jpg
+A
حجم الخط
-A

الحديث عن المُخْبِرين في ظل حكم الأسد الأب والأسد الوريث القاصر أصبح مملاً لكثرة ما كُتِبَ فيه، وبالأخص بعد الثورة حيث امتلكنا الكثيرَ من الشجاعة إثر خروجنا من تحت سطوة المخبرين والأجهزة الأمنية القذرة.

إلا أن المُخْبِر الذي ظهر لنا فجأة في محافظة إدلب، في تلك الأيام، كان ذا شأن مختلف، وعلى قولة المرحوم ناجي جبر أبي عنتر "مُخْبِرْ إلُهْ فَكَاهَة ومازِّيِّة"! وإن كان الأطباء، بعد التخرج، يذهبون إلى عالم الاختصاص، فذلكم المخبر لم يكن ليقل عنهم في هذا المجال.. كان متخصصاً بأدباء ومثقفي محافظة إدلب بشكل عام، ويستفقدنا، نحن الأدباء الأربعة الموقعين على بيان الألف، بين الحين والآخر، بتقارير إضافية يمكن اعتبارها نوعاً من الضيافة، أو الإكرامية، أو العمل (الطوعي) الذي كانت مؤسساتُ النظام (تجبرُ) الناس على ممارسته في الذكرى السنوية لانقلاب الحركة التصحيحية (إجباراً). 

لا يوجد ما يدعوني لذكر اسم المُخْبِرِ المقصود، ذي الفكاهة والمازيّة هنا، لعدة أسباب؛ أولها أن الشخص المؤذي -كائناً مَن كان- لا يستحق الذكر، وثانيها أن العبرة ليس للأسماء بل للظواهر والأحداث ومدلولاتها، وثالثها أن معظم العاملين في حقل الأدب في سوريا أصبحوا -فيما بعد- يعرفونه، ومؤكد أن كل واحد منهم تَعَرَّضَ، خلال ربع قرن من الزمان، لموقف أو أكثر معه. (يمكننا أن نرمز إلى اسمه خلال هذا الحديث بأي اسم، وليكن، مثلاً، "أبو فَسْتُوك").

محسوبكم واحد من عدة أدباء عاشوا ضمن الحدود الجغرافية لمحافظة إدلب، كتبوا ونشروا وأصابوا شيئاً من الشهرة منذ الثمانينات.. يعني أننا أصبحنا -بمعنى ما- مخضرمين.. وقد جرت العادة حينما يظهرُ ضمن محيطنا أديبٌ جديد، أن يأتي إلى واحد منا ويَعرض عليه بضاعته الأدبية، على استحياء، ويطلب منه الرأي، والقراءة، والتدقيق، والتصحيح، وإسداء النصح، ثم، إذا أمكن، التزكية لدى المسؤولين عن النشر في صحف العاصمة. بيد أن صاحبنا المُخْبِر أبا فستوك لم يمر بمرحلة التلمذة هذه، وإنما ظهر بيننا فجأة، أو، قُلْ نزلَ علينا بالمظلة مثلما كان الطلابُ الكسالى ذوو المؤهلات العلمية الهزيلة يهبطون على كلية الطب أيام السفاح رفعت الأسد (أي قبل سنة 1983)..

يمتاز المخبرون عموماً بالخبث، ومن فرط خبثهم ومقدرتهم على التخفي والتمويه يمكن أن يمر وقت طويل حتى يكتشف الناس في محيط وجودهم أنهم مخبرون

يمتاز المخبرون عموماً بالخبث، ومن فرط خبثهم ومقدرتهم على التخفي والتمويه يمكن أن يمر وقت طويل حتى يكتشف الناس في محيط وجودهم أنهم مخبرون، على عكس أخينا أبي فستوك، فقد دخل علينا، مباشرة، بصفتين صريحتين، الأولى "شاعر" والثانية "مُخْبِر".. ونحن، في الحقيقة، لم نكتشفه مِنْ أول قصيدة قرأناها له، وإنما من أول تقرير أمني نَفَضَنَا به، أو مِنْ أول استدعاء أمني لنا كان هو يقف وراءه، وفي وقت لاحق، حينما أصبح أبو فستوك محسوباً على الوسط الأدبي، وعضواً في اتحاد الكتاب العرب الذي يقوده الرفيق علي عقلة عرسان، وأصبحت له صولات جولات وطنة ورنة، كان معظم أصدقائي الذين ألتقيهم في دمشق أو حلب أو بعض المحافظات الأخرى، يسألونني بطريقتهم العامرة بالدعابة:

- خيو، أبو مرداس، بما أنك "مختار محافظة إدلب"! هادا الرفيق أبو فستوك أيش بيكتب؟

وكنت أرد عليهم بالطريقة الممازحة نفسها: خيو، هادا أبو فستوك -الله يعزكم- بيكتب شعر وتقارير، ومِنْ مدة قريبة سمعت أنه أقلع عن كتابة الشعر.

إقلاع أبي فستوك عن كتابة الشعر، مع أننا أوردناه في سياق المزاح، إلا أنه أمر يحتاج إلى توضيح، فالرجل في الأساس ليس شاعراً، ولا حتى نَظَّاماً، وإنما بدأ حياته بتقليد الشعر العمودي مخالفاً توصيف "الآمدي" الذي وصف الشعر بقوله: يُفْهَمُ بعضُه من بعض، ويأخذ بعضه برقابِ بعض.. فشعرُ أبي فستوك يعاني من كثرة الإقواء والزحافات واختلال الإيقاع ومن تقعر الكلمات ورداءة المعاني، ومع أن عدد حروف العربية 28، كان يركز على قوافٍ قليلة هي الدال، ليمدح بها الأسد، جرياً على طريقة الجواهري (سلاماً أيها الأسدُ)، واللام، المخصصة للباسل، والباء التي تساعده على ترداد كلمة العرب، وأحياناً يكتب القصائد التي يشيد فيها بجمال براري قريته وهوائها على قافية الهمزة، فيقول:

في قريتي الجمالُ والأفياءُ

نزورُها في الصبحِ والإمساءُ

تسيرُ خلفَ القائدِ المُظَفَّرِ

وبهكذا ينضحْ بها الإيناءُ

أقول الصدق إن أبا فستوك لم يقترف البيتين اللذين أوردتُهما أعلاه، ولكنه يقترف الشعر على هذه السوية، أو ما دونها، وإنه لمن حسن الحظ أن قريحته مجدبة، واكتفى بإصدار مجموعتين شعريتين صغيرتين (حجم الواحدة منهما 32 صفحة)، وكان ذلك مقصوداً بذاته، لأن اتحاد الكتاب العرب يشترط على من يتقدم لعضويته أن يكون لديه كتابان مطبوعان، وجدير بالذكر أن اتحاد الكتاب كان يعتمد توصيف منظمة اليونسيكو للكتاب الذي ينص على أنه لا يجوز أن يقل عن مئة صفحة، ولكن الرفاق في الاتحاد حينما علموا بموهبة أبي فستوك الأخرى (أعني الموهبة الأمنية) اكتفوا بما لديه، وضربوا صفحاً عن الأخطاء الإملائية والعروضية المتوفرة في الديوانين، وقبلوه عضواً عاملاً، وأعفوه من شرط مدة التمرين التي تبلغ سنتين ويُشْتَرَطُ فيها أن يقدم كتاباً مطبوعاً ثالثاً تزيد صفحاته عن المئة، وهكذا نزل على اتحاد الكتاب العرب بالمظلة أيضاً.

-وللحديث صلة-