سويسرا وسفاراتها: "ضابط ارتباط" إيراني!

2022.11.02 | 06:51 دمشق

سويسرا وسفاراتها: "ضابط إرتباط" إيراني!
+A
حجم الخط
-A

لم تكن "المحاولة السويسرية" للدخول على خطّ تعديل "اتفاق الطائف" اللبناني، "زحطة" من صنع منظمة غير حكومية مثلما حاول بعضهم الإيحاء. استنفار "حزب الله" وجيشه الإلكتروني ضدّ عملية إسقاط "عشاء السفارة" يؤشّر إلى عمق الرهان المعقود على هذا العشاء، وما كان يخفيه في كواليسه.

لكن لماذا السفارة السويسرية؟ سؤال لم يجب عنه أحد حتى اليوم!

في التاريخ الحديث، يمكن القول إنّ سويسرا هي "ضابط ارتباط" إيراني إلى حدّ بعيد، أو قُل ضابطَ ارتباطِ العالم مع إيران. تلعب هذه الدولة دورَ الوسيط بين جميع دول العالم الغربي والعربي من جهة، وبين الجمهورية الإسلامية في إيران من جهة أخرى.

سُمعة سويسرا كـ"دولة محايدة" تعود إلى الوراء لعقود. وانطلاقاً من هنا بقيت على علاقات طيبة مع طهران في أحلك الظروف العالمية وخلال أكثر الأزمات دقّة وخطورة.

هذا كلّه قد يقدّم بعض التفسيرات حول فكرة "الحوار السويسري" الموءود في لبنان، وحول "مائدة العشاء" الراحلة، التي دعت إليها السفارة السويسرية قبل أسابيع وكادت تُحدث انقساماً عامودياً بين الأحزاب السياسية اللبنانية، واستنهضت الحديث عن دور "اتفاق الطائف" وضرورة الدفاع عنه وحمايته، من أي دور سويسري قد يكون مشبوهاً، ويُتوسّل أو يُراد منه عن قصد تغيير التوازنات اللبنانية.

تاريخ تقارب سويسرا - إيران

لنعد إلى تاريخ العلاقة السويسرية الإيرانية:

1. تمثّل سويسرا حالياً المصالح الدبلوماسية لبلدان غربية عدّة داخل العاصمة الإيرانية. من أبرزها الولايات المتحدة، وكندا، والسعودية. كما تمثّل سفارات سويسرا مصالح إيران في المملكة وفي مصر، وتمثّل مصالح روسيا في جورجيا، والعكس بالعكس.

يتباهى المسؤولون الأميركيون بأنّ دور السفارة السويسرية كوسيط دبلوماسي بين واشنطن وطهران، يمتدّ لأربعة عقود وعلى مدى 7 رئاسات أميركية. فبعد ساعات من الغارة الجوية الأميركية التي قتلت قائد الحرس الثوري السابق قاسم سليماني، استخدم البيت الأبيض قناة سويسرية خلفية لتوجيه رسالة إلى طهران يحثها فيها على عدم التصعيد.

أحد المسؤولين الأميركيين كشف لقناة "الجزيرة" في حينه، أنّ الإدارة الأميركية لا تتواصل مع الإيرانيين، لكن السويسريين "يلعبون دوراً مهماً في نقل الرسائل وتجنب سوء التقدير". وسائل الإعلام الأميركية كشفت في حينه أيضاً، أنّ تلك الرسالة وصلت عبر جهاز فاكس "مُشفّر" مُحتَفَظ به داخل غرفة مغلقة في مقرّ البعثة السويسرية، ووظيفته الوحيدة الاتصال بالمسؤولين الإيرانيين عبر الدبلوماسيين السويسريين الموجودين في طهران.

2. صفقة "الإفراج المتزامن" عن السجناء الإيرانيين والأميركيين وعملية تحرير المليارات السبعة من الأموال الإيرانية المجمدة التي تمت قبل أشهر، كانت بوساطة سويسرية - قطرية، وقد لعبت الدولتان معاً دورَ قناة اتصال في العملية بين إيران والولايات المتحدة.

3. تلتزم سويسرا منذ العام 2007، بالعقوبات المفروضة على إيران من الأمم المتحدة، إلاّ أنها لم تتبنَ العقوبات التي قرّرها الاتحاد الأوروبي بعد ذلك إلاّ جزئياً. وبعد دخول الاتفاقية النووية حيز التنفيذ في عام 2016، قامت سويسرا بالتخفيف من التزامها بتلك العقوبات.

4. في بدايات الحرب الأوكرانية - الروسية، أبدت سويسرا استعدادها لتقديم مساعدة دبلوماسية، والقيام بدور وسيط بين موسكو وكييف، التي وافقت قبل نحو شهرين على العرض السويسري من أجل تمثيلها دبلوماسياً في روسيا.

5. خلال شهر شباط 2016، أعلنت سويسرا موافقتها على تمثيل مصالح المملكة العربية السعودية لدى إيران، وذلك بعد اقتحام متظاهرين للسفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد، وإضرام النار فيهما.

6. مثلت سويسرا مصالح إيران في مصر منذ قيام الثورة الإيرانية التي أطاحت بالحكم الملكي الوراثي لشاه إيران السابق محمد رضا بهلوي في فبراير 1979.

... وهناك كثير من الشواهد الإضافية على هذا الدور.

هل هناك ما هو أعمق؟

لا يكتفي أستاذ الدراسات العليا في كلية الحقوق والعلوم السياسية بالجامعة اللبنانية الدكتور وليد صافي، بمقاربة التناغم بين سويسرا – الغرب –إيران. بل يذهب أبعد من ذلك، ويقول إنّ "سويسرا هي الدولة الوحيدة في أوروبا التي لم يدخلها أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية نتيجة توافق الأطراف المتحاربة كلها على تحييدها بسبب مصالحهم النقدية فيها وسريتها المصرفية. كما أنّ التجربة السويسرية وتعايش الكانتونات بين مختلف الثقافات والأديان واللغات داخل سويسرا، ربّما كانت المحرّك لدفع هذا النموذج نحو تعميمه في دولة مثل لبنان. قدرة سويسرا على احتضان هذا التنوّع "أسس لنموذج بلد ناجح استطاع أن ينأى بنفسه عن الحروب داخل القارة الأوروبية ويراكم إجماع الأقطاب المتحاربة على تحييد نتيجة المصالح المتشابكة مع تلك الدولة في وسط أوروبا".

أمّا ربط هذا كلّه بـ"العشاء السويسري"، فيلخّصه صافي بالقول: "اتفاق الطائف لم يُطبّق بشكل كامل، ولو طُبّق بالفعل، لكان النظر بالثغرات الموجودة فيه أمراً ممكناً"، لكنه في الوقت نفسه يحذّر من أنّ "أكبر خطيئة قد يرتكبها المسيحيون في لبنان، هي أن يفكروا بوضع اتفاق الطائف على طاولة النقاش؛ لأن ميزان القوى الذي أوجد الطائف لم يعد كما هو اليوم، وأي صيغة أو نظام جديد لن يكون إلاّ على حسابهم، وبالتالي فإن هذا الوقت ليس لإعادة النظر به" وهنا أخطأت سويسرا.

ما علاقة العشاء السويسري؟

إذا ربطنا هذا السجل السويسري الحافل بالـ"الارتباطات والتقاطعات" بين الغرب وإيران عبر دولة سويسرا، يمكن استنتاج خلاصة بديهية وبشكل تلقائي مفادها: العشاء الذي نظّمته جمعية "Centre for Humanitarian Dialogue"، بالتنسيق مع سفارة سويسرا في لبنان ووزارة خارجيتها، ودعت إليه ممثلي الأحزاب والقوى اللبنانية، لم يكن إلاّ نوعاً من أنواع التقاطع بين الدول الغربية من جهة وبين الجمهورية الإسلامية في إيران من جهة أخرى.

بل أكثر من ذلك، فإنّ المعطيات تكشف عن وجود علاقة صداقة بين نائب "حزب الله" علي فياض (ممثل الحزب في العشاء المؤجّل إلى أجل غير مسمى) وبين أحد الصحافيين اللبنانيين البارزين المقرّبين من المحور الإيراني. زوجة هذا الصحافي تعمل في الجمعية المُنظِّمة للقاء بالتنسيق مع وزارة الخارجية السويسرية، ولا يُستبعد أبداً أن يكون تأثيرها وتأثير صداقات زوجها، قد لعبا دوراً في ترتيب هذه الطاولة في الشكل، وتحديد المدعوين الذين كان فياض من بينهم في المضمون!  

هذا كله يشير أيضاً، وبالتواتر، إلى احتمال أن تكون السفارة السويسرية (بدفع ومباركة ممن هم خلف الجمعية وبدعم من الغرب طبعاً) قد تماهت مع طموحات إيران، من أجل استكمال التقارب مع الغرب من خلال ملف الترسيم بداية ولاحقاً الملف النفطي، وربّما مع الوقت من خلال "العشاء السويسري"، وصولاً إلى طاولة الحوار التي "يحلم" حزب الله بها لتقاسم "جثة" الطائف، من أجل الوصول إلى الهدف: تعديل "اتفاق الطائف" كثمن يدفعه اللبنانيون داخلياً، مقابل تنازله في "اتفاق أبراهام" المزعوم بين لبنان وإسرائيل الذي وقّعه الطرفان قبل أيام في الناقورة بجنوب لبنان.