سوريا.. بين تحقيق العدالة ومنح الصفح

2023.06.22 | 06:35 دمشق

آخر تحديث: 22.06.2023 | 06:35 دمشق

سوريا.. بين تحقيق العدالة ومنح الصفح
+A
حجم الخط
-A

"العين بالعين والسن بالسن ومن بنى بيتاً وهُدم على أصحابه يقتل، والبادئ أظلم"، إنها أقدم قوانين العقوبات التي سنها "حمورابي" لوضع نظم لمجتمع كان ينفذ جرائم انتقامية بعضه ضد الآخر من دون رادعٍ أو تنظيم.

قد يرى البعض أن هذا القانون لم يكن سوى تنظيم لحالة الانتقام بحد ذاتها بحيث يعاقب المجرم بجرمه نفسه، لكن أليس ذلك جوهر قانون العقوبات الحديث الذي يعاقب المجرم بجزاء من جنس العمل؟

يفسر علماء القانون النص الجزائي في بعض الأحيان بمفهومه الأوسع، وهو الأمر الذي ينطبق على كثير من القوانين والتشريعات الجنائية والمدنية في عصرنا الحالي، فلم تعد يد السارق تقطع وصار حكم الإعدام مثيراً للجدل في دول كثيرة حتى أنه لم يعد موجوداً في بعض منها تقديساً لحق الحياة.

لكن ذلك لم يكن شافياً في حقيقة الأمر للنفس البشرية، التوّاقة إلى إحقاق الحق وتحقيق العدالة التي يعتقد كثيرون أن القصاص بمعناه الحرفي جزء لا يتجزأ منها.

فلو سألنا اليوم من نجا من ضحايا الزلزال، وفقد عائلته كيف سيكون حكمه لو تمكن من محاكمة أحد المتورطين الذين لم ينجزوا عملهم بشكل مطابق للوائح والقوانين، وغشوا في معايير البناء ومستلزماته فتسببوا بموت كثيرين حين اهتزت الأرض، ما الذي سيطلبه ليشعر بالرضا والعدالة؟

أكاد أجزم أن أغلبنا سيختار القصاص بمفهومه البدائي، ذلك أن الإنسان يحتاج إلى وقت طويل وصبر وحكمة وحِلم قبل أن يصل إلى مرحلة يمنح فيها من ظلمه العفو.

بعض الناجين من قنبلة هيروشيما على سبيل المثال استطاعوا العفو والمضي قدماً وهم ينشدون عالماً مسالماً، لكنهم ربما لم يصلوا إلى هذه النقطة إلا بعد كثير من الأحداث ونصف قرن من وقوع الكارثة؟ الجزائريون لم يجدوا عزاء في اعتذارات فرنسا المتكررة عما ألحقته من مجازر بحق المناضلين الذي قاوموا احتلالها وما زال ذلك جرح عميق لديهم.

قاتلنا لم يكن يقاوم عدوّاً لقد كان يصب جام حقده على من سوّلت له نفسه الرغبة بالخروج عن الطاعة، في حين غضّت دول العالم بصرها عن مقتلتنا وعاودت مصافحة القاتل متجاهلة موتنا المستمر

أما نحن بصفتنا سوريين فما زال العالم يختبر صبرنا، ويكافئ سفاحنا الذي لا يتكلف إخفاء ابتسامته المتعجرفة والهازئة بعد كل كارثة تحل بنا.

قاتلنا لم يكن يقاوم عدوّاً لقد كان يصب جام حقده على من سوّلت له نفسه الرغبة بالخروج عن الطاعة، في حين غضّت دول العالم بصرها عن مقتلتنا وعاودت مصافحة القاتل متجاهلة موتنا المستمر.

هل يصفح السوريون إذن عمن لم يفكر باعتذار أو لم يراوده ندم؟

لا أظن أن السوريين يستطيعون منح الصفح بعد، لا رغبة بالانتقام وإنما لأن العدالة التي نشدوها لم تتحقق، لم يحققها العالم وعجز السوريون عن تحقيقها بأنفسهم بما لم يمتلكوا من قوة وصبر، عدا أن الصفح رفاهية يمتلكها من استطاع تضميد جراحه وهو أمر لم نحظَ به.

إن مغزى العقوبة الأساسي ليس الردع فحسب، بل التعويض عما حلّ بالضحية من خسارة، غير أن القوانين الوضعية لا تتسع لمفهوم الخسارات المعنوية التي لا يوجد معيار لتقييمها.

مؤخراً رفعت هولندا وكندا قضية ضد النظام السوري لدى محكمة العدل الدولية، بدعوى مزاعم تعذيب وإخفاء للسوريين وارتكاب انتهاكات انتهاكات لا حصر لها للقانون الدولي، منذ اندلاع الثورة السورية في البلاد في عام 2011، وطالبت الدولتان المحكمة بإلزام سوريا بوقف أعمال التعذيب.

وفي حال توصل محكمة العدل الدولية إلى أن الدعوى القضائية تقع في دائرة اختصاصها، ستكون أول محكمة دولية تحكم في مزاعم التعذيب السورية.

ليست المحاولة الأولى لفتح الملفات الإجرامية أمام المحاكم الدولية، فقد سبق أن رفع محامون دعاوى ضد بشار الأسد، في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، باسم 28 لاجئاً سورياً في الأردن، بدعوى إجبارهم على النزوح من بلدهم.

وطالب محامو الادعاء المحكمة بالتحقيق في جرائم محتملة ضد الإنسانية منذ عام 2011، إلا أن المحكمة أعلنت عدم اختصاصها لأن سوريا ليست عضواً في معاهدة روما، التي أسست المحكمة الجنائية الدولية، ما يعني أنه لا يمكن رفع قضايا دولية ضد حكومتها.

ليست جرائم النظام في سوريا خفية فقد "وثّق مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة مقتل 306 آلاف و887 مدنياً في سوريا منذ بداية الثورة في مارس/آذار 2011، وفق تقرير صدر في يونيو/حزيران 2022، وأظهر التقرير أن السبب الرئيس في سقوط قتلى من المدنيين كان استخدام الأسلحة المتعددة التي شملت اشتباكات وكمائن ومذابح، إذ شكل هذا السبب 35.1% من الضحايا، أما السبب الثاني فكان استخدام الأسلحة الثقيلة وجاء بنسبة 23.3%".

ووفقاً للتقرير، فإن النظام السوري كان مسؤولاً عن مقتل معظم ضحايا التعذيب بنسبة 98.63%، إذ قُتل على يده 14 ألفاً و338، من بينهم 173 طفلاً و74 سيدة، عدا أعداد المعتقلين والمغيبين قسراً.

وقد سبق أن دانت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية النظام السوري، في يناير/كانون الثاني الماضي، مسؤولية الهجوم بغاز الكلور على مبان سكنية في مدينة دوما التي كانت خاضعة لسيطرة مقاتلي المعارضة في عام 2018.

أياً كانت العواقب فعلينا للتاريخ أن نختار طريق العدالة كي لا يقع أبناؤنا فريسة اليأس وألا نورثهم تلك الهزيمة

ربما لا يمكن الجزم بأننا قادرون على تحصيل حقنا بأنفسنا أو أن أحداً سيدعمنا في ذلك، لكن لا يمكن لنا الاستسلام للأمل أيضاً بأن العدالة ستجد مجراها من تلقاء ذاتها من دون أن ندفع بهذا الاتجاه.

أياً كانت العواقب فعلينا للتاريخ أن نختار طريق العدالة كي لا يقع أبناؤنا فريسة اليأس وألا نورثهم تلك الهزيمة، فهذا بحد ذاته جريمة أخرى سندفع ثمنها إضافة إلى ترك المجرم طليقاً والكف عن ملاحقته وحمل عبء عار الاستسلام والتوقف عن دعم أحقية موقفنا، حتى وإن كانت القوانين الدولية والعالمية والجنائية والإنسانية أعجز من أن تجد جزاء مناسباً وتعويضاً عادلاً لخساراتنا.

ما الذي نريده اليوم إذن؟ يريد بعضنا أو كثير منا أن يصدق أنه ما زال لدينا أمل على الرغم من كل الحقائق التي تكشفت عن زيف ادعاء العالم بنصرة الحق ووهم العدالة وفقاعات الحريات والحقوق، وألا نتوقف عن الإيمان بأننا سنشاهد ذلك الضوء في نهاية النفق يوماً ما وسنقدم إلى المحاكمة في النهاية السفاح الذي لم يسجل له التاريخ شبيهاً.