سوريا بين المجتمع الأهلي والمدني

2021.11.25 | 05:17 دمشق

16080471211598462562.jpg
+A
حجم الخط
-A

يروى أن تاجراً دمشقياً كان يتجول في أزقة بغداد خلال عهد الدولة العباسية، فسمع نحيب امرأة، واقترب منها ليسألها أمرها، فعرف أنها جارية قد كسرت جرة الماء وتخشى عقاب سيدتها حين رجوعها للمنزل، فمضى بها إلى السوق واشترى لها جرة ماء جديدة، ثم عرجّ على بيت مال المسلمين ليترك فيه مبلغاً من المال تحت اسم "وقف الجرار"، دعماً للحالات المشابهة.

تكافل وتعاضد ودفع للمساعدة، انطلاقاً من فطرة الإنسان على الخير، وثمرة لأخلاق البيئة الدينية والاجتماعية وأعرافها، تطور المجتمع الأهلي في المجتمعات العربية، ليخلق طابعاً تميزت به تلك المجتمعات على اختلاف ثقافتها، فلم تكن المشهدية الدرامية للبيئة الشامية إلا تصويراً لواقعها، في صورة الأعيان والزعامات التي تدير مرافق الحي، وتتكفل في هموم سكانه، بدعم من المجتمع المحيط.

على الرغم من وجود الدولة وسطوتها، وحتى تحت ظل الانتداب ومراسيمه المنفصلة عن الواقع في سوريا، لم يكسر المجتمع الأهلي السوري تحت أحلك الظروف، بل وجدنا تعمق الروابط بين أفراده في الليالي السود، وهو ما تشير إليه كتابات تاريخية مهمة، ولعل يوميات "البديري الحلاق" نسجت صورة مهمة عن ذلك الواقع خلال عهد الدولة العثمانية، وفترة المجاعات التي عصفت بدمشق.

حالة التعاقد بين الأفراد في ذلك المجتمع، بدأت مطلع القرن الماضي بالتحولات نحو إيجاد عقد اجتماعي جديد، ضمن فكرة الحالة المدنية التي أطلقها "سبينوزا" و"توماس هوبز" منتصف القرن السابع عشر، وبناء عقد اجتماعي بين الدولة والأفراد، تطغى خلاله المصلحة الجمعية على الفردية، ويذوب الفرد في المجتمع، لتنتهي نزعة الأنانية والتفرد، وتكون الدولة بمؤسساتها الراعي الرئيس لفعاليات المجتمع ومؤسساته بما يخدم مصالح الأفراد ومصالحها، بطريقة نفعية للطرفين.

"قنباز" كان من أولى التجارب السورية الفعلية، لخلق مؤسسات مدنية تنظم شؤون الأفراد، وتدفع العجلة نحو المجتمع المدني المنظم

في حلقة سابقة من برنامج الذاكرة السورية على تلفزيون سوريا، تتحدث السيدة "حذام زهور عدي" عن الطبيب السوري "صالح قنباز" ونضاله لتأسيس النقابات في حماة بداية القرن الماضي، وسعيه إلى تفكيك هيمنة "شيوخ الكارات" على مسيرة الحرف والمهن، ويبدو أن نضال "قنباز" كان من أولى التجارب السورية الفعلية، لخلق مؤسسات مدنية تنظم شؤون الأفراد، وتدفع العجلة نحو المجتمع المدني المنظم، وهو النضال الذي لم يكتمل، حيث دفع الرجل حياته ثمناً له، وتم اغتياله أمام منزله في حماة عام 1925.

لم يكن من السهل الانتقال بالمجتمع السوري إلى الحالة المدنية المنظمة، نتيجة لظروف كثيرة، أبرزها الانتداب الفرنسي وتداعيات وجوده في سوريا، لتبرز الحالة المدنية الواعية في عهد الدولة الوطنية بعيد الاستقلال، وتشهد النقابات والجمعيات المدنية انتعاشاً واضحاً، خلال أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، وهو ما تم تدميره فعلياً في فضاء البعث، وسيطرة حافظ الأسد على مفاصل الدولة بداية السبعينيات، لتتحول النقابات برمتها، إلى ذارع بعثي غير مستقل، يضرب المعارضين بيد من حديد، لتتحول المؤسسات بعده إلى لعنة كبرى على الفرد والمجتمع، بعد أن أقصت وجود الحالة الأهلية وأنماط تعايشها.

ومع بداية الألفية الجديدة، شهدت سوريا محاولة مهمة في مجال المجتمع المدني، حيث ظهرت "لجان إحياء المجتمع المدني"، وهي التي لعبت دوراً بارزاً في خلق حراك مجتمعي، في ظل تغييب الديمقراطية وسلطة الحكم المنفرد، فنظمت ندوات في معظم المدن السورية، وكتب بعض ناشطيها مؤلفات في تحديد مفاهيم الحالة المدنية وأهميتها وسبل نشاطها، مؤكدة على حق المجتمع باستقلاليته عن الدولة في نواح شتى، وأن الحالة العقدية مع الدولة تحتاج شروطاً تنظيمية جديدة تفيد مصلحة طرفيها، وتكسر هيمنة طرف على آخر.

لا شك أن المجتمع المدني بمؤسساته المستقلة، هو أكثر أشكال التنظيم للدول الحديثة وأكثرها رقياً، ولكن يبدو الوصول إليه اليوم في الحالة السورية المهشمة ضرباً من الخيال

لم يكتب لحالة "لجان إحياء المجتمع المدني الاستمرار"، وتم اغتيالها، حالها حال ما تبعها وسبقها من حراك في تلك الفترة، لتتوسع سلطة الحكم في نفوذها على الدولة والمجتمع، وتلغي فرصة تاريخية للتصالح معه، فجاءت الثورة بعفويتها لتكشف واقع المجتمع السوري، وغياب تنظيمه، وتأثيرات نهج النظام الطويلة على عقلية الفرد السوري، البعيد عن العمل المؤسساتي وتقنياته.

لا شك أن المجتمع المدني بمؤسساته المستقلة، هو أكثر أشكال التنظيم للدول الحديثة وأكثرها رقياً، ولكن يبدو الوصول إليه اليوم في الحالة السورية المهشمة ضرباً من الخيال، فما يتوجب اليوم علينا كسوريين السعي لإعادة ترميم المجتمع الأهلي بدوائره الضيقة، لأنه الطريق الوحيد نحو مجتمع مدني منظم، فضمن فكر "سبينوزا" الذي يرى عدم القطيعة مع ذلك المجتمع وآلية تنظيمه، ربما نجد قارب نجاة لبناء حياتنا السورية من جديد، ووضع عقد اجتماعي يرضي الدولة المستقبلية والمجتمع، ذلك الأخير المحكوم بثقافة وعادات تمتد جذورها لقرون.