كان ممدوح عدوان يفخر بصفة المتمرد التي التصقت باسمه منذ بدأ هذا المثقف السوري، متعدد الاشتغالات، مسيرته الكتابية ونشر مسرحيته الشعرية الأولى، ذات العنوان الدال «المخاض»، عام 1967. وفيها يستلهم، هو المولود في قرية قيرون بريف مصياف، بيئة مجاورة حفظت ذكرى متمرد شعبي هو بوعلي شاهين من قرية سيغاتا القريبة.
تقول الروايات المتداولة شفوياً إن شاهين كان فلاحاً بسيطاً مرابعاً لدى أحد الإقطاعيين، كمعظم سكان المنطقة، وإنه عجز عن تسديد حصة مالك الأرض في إحدى السنوات، بُعيد الاستقلال عام 1946، بسبب القحط، وإنه تشاجر مع «زلمة الآغا» الذي طالبه بها بفظاظة وبذاءة لم يستطع بوعلي احتمالهما فضرب هذا «الوقاف» الذي استعان بالدرك فاقتادوا الفلاح إلى المخفر حيث أهانوه وضربوه بشدة. ولما خرج حمل بارودته وبدأ بقتلهم، وعاش وحيداً في البراري حتى اشتهر بلقب «الفهد» وصار أيقونة محلية. ضغطت السلطات للقبض عليه بوسائل متعددة، منها احتجاز زوجته وطفله، إلى أن تمكنت من ذلك بفعل وشاية خاله، وأعدمته شنقاً عام 1949.
يقول عدوان إن ما أثار انتباهه هو استمرار الأغاني الفلكلورية التي تتغنى بشاهين حتى الستينات. ولهذه القصائد روايات متداخلة غير منضبطة بطبيعة الحال، شاع منها بيت يقول: «يا بوعلي يا شيهين يا الرابط ع الكروسي/ قتلت درك مصياف لسا درك طرطوسي». والحال أن طرطوس لن تتأخر عن تمجيد البطل الشعبي، ففي عام 1968، التالي لظهور مسرحية عدوان، سيصدر، عن وزارة الثقافة، ديوان «أغان على جدار جليدي»، وهو الأول لمحمد عمران، ابن قرية الملاجة التي ستشتهر به. وفيه سيكتب الشاعر قصيدة بعنوان «شاهين» في مقدمة وخمس لوحات، رافعاً المتمرد إلى مصاف «الأسطورة المحلية» كما قال نقاد، إلى جانب أوليس بطل الأوديسة وشهريار ملك ألف ليلة وليلة، كأسطورتين عالمية وعربية تشاركانه صفحات الديوان.
في العام نفسه سيصدر حيدر حيدر، ابن حصين البحر بريف طرطوس، كتابه الأول كذلك، «حكايا النورس المهاجر»، وهو مجموعة قصصية وصفتها ناشرتها وزارة الثقافة أيضاً، عند الإعلان عن ظهورها، أنها تحكي عن «الإنسان في كفاحه اليومي لتثبيت وجوده القومي». وفيها كتب حيدر قصة طويلة بعنوان «الفهد» تتناول حياة بوعلي شاهين، ستشتهر في ما بعد وتجد طريقها إلى التكريس والطباعة كرواية مستقلة.
كانت رسالة المؤلفين الثلاثة هي أن البطولة الفردية لا تجدي مع غياب الوعي بسبل النضال الصحيحة الكفيلة بتثوير الجماهير. وبالمقابل، انتمى المسرحي والشاعر والروائي إلى يسار البعث. وتحدروا، مثل بطلهم، من البيئة العلوية. غير أنهم، وسيصبحون من نجوم الثقافة السورية وألمع أسمائها في العقود اللاحقة، لم يُضمروا ميلاً طائفياً واعياً بقدر ما نطقوا بلسان جيل ناهض من الثائرين الذين وصلوا إلى السلطة بانقلابٍ قاده الحزب، في 8 آذار 1963، وتفردوا بها بتحرك يساري داخله في 23 شباط 1966، وهي المرحلة التي اتسمت بخلطة من الانحيازات الطبقية والأهلية والهوياتية إلى الفلاحين والمسحوقين والموثوقين، كانت طائفية النتيجة.
يفضّل مثقفون أن يقولوا إن الأمر أتى من وزارة الداخلية لأن الفيلم «يشجع التمرد ويسيء إلى سلك الشرطة»، لكن صحيفة «الثورة» الرسمية تحفظ لنا سجالاً غريباً جرى في حزيران 1969، بدأه حيدر بمقالة بعنوان «من الذي منع فيلم الفهد ولماذا؟»
على كل حال، ستمتد يد دمشقية إلى القصة، هي لنبيل المالح الذي كان يبحث عن فيلمه الطويل الأول وعثر عليه في «الفهد». ليلتقي بذلك مع رغبة المؤسسة العامة للسينما، وهي جهة القطاع العام التي أنشأها البعث بعد أشهر من استيلائه على السلطة، وأناط بها إنتاج أفلام تواكب صعود البلاد في ظله وتدعم مسيرة بناء المجتمع العربي الاشتراكي المنشود. وكانت قصة بوعلي شاهين أكثر من مناسبة لاعتبارات عديدة. وبالفعل، كتب المالح سيناريو الفيلم ونظم عدوان أشعار أغانيه، وكان كل شيء على وشك الإقلاع عندما أتى الإيعاز بالتوقف قبل بدء التصوير بأسبوع!
يفضّل مثقفون أن يقولوا إن الأمر أتى من وزارة الداخلية لأن الفيلم «يشجع التمرد ويسيء إلى سلك الشرطة»، لكن صحيفة «الثورة» الرسمية تحفظ لنا سجالاً غريباً جرى في حزيران 1969، بدأه حيدر بمقالة بعنوان «من الذي منع فيلم الفهد ولماذا؟»، مشيراً إلى وزارة الثقافة التي سترسل، بعد أيام، رداً حاداً تقول فيه، «بصراحة»، إنها منعت إنتاج الفيلم لأسباب ثلاثة؛ أولها أنه يدور «حول أحد الخارجين عن القانون قاطع الطريق الذي كان يرتكب جرائمه دون أي هدف سوى السرقة والنهب بالعنف وقتل العديد من رجال الدرك الذين قاموا بواجبهم»، وثانيها أن «تصوير هذا الرجل كمناضل طبقي يسيء إلى النضال في حد ذاته، فالمناضل يفترض فيه أن يكون شريفاً»، وثالثها أن حيدر رفض «تطوير القصة بشكل تصور نضال الفلاحين في السهول وفي الجبال على حد سواء، وأصر على أن تبقى تمجيداً لمنطقة معينة واحدة، مما قد يفسر بتفسيرات كثيرة ومما قد يثير نعرات لا يجوز إثارتها قومياً ولا وطنياً»!
سيبقى السيناريو في أدراج المؤسسة حتى تتغير الحكومة، بل الحكم، مع انقلاب حافظ الأسد 1970، ثم ستقلع كاميرا تصوير الفيلم مقدّمة مرافعة قاسية ضد الحكم الوطني بعد الاستقلال. فالآغا يتمتع بعضوية المجلس النيابي، وابن عمه وزير، ولذلك يستطيع التأثير على مستقبل القائد المحلي لفصيل الدرك، والذي يجهد للإمساك بالفراري الذي لعب دوره أديب قدورة في أول ظهور سينمائي، وببطولة ممثلة حددت نمط أدوارها الساخنة حين اختارت لنفسها الاسم الفني «إغراء». وهي تعدّ «الفهد» نقلة مهمة في مسيرتها بالنظر إلى ما يحمله من مضمون تقدمي سيستهويها رغم كل شيء، ولأنه قدّم «المشهد الأجرأ» في السينما السورية، بظهورها عارية كلياً، بعد أن انتهى التصوير وجاء المخرج ومدير الإنتاج طالبين منها «إنقاذ» الفيلم، إذ خشيا أن يكون قليل الجاذبية للجمهور، بإضافة هذا المشهد. وفي عبارة شهيرة تروي إغراء إنها شعرت وقتها أنها فدائية أو انتحارية، ووافقت قائلة: «ليكن جسدي جسراً تعبر عليه السينما السورية»!
في عبارة شهيرة تروي إغراء إنها شعرت وقتها أنها فدائية أو انتحارية، ووافقت قائلة: «ليكن جسدي جسراً تعبر عليه السينما السورية»!
لم يكن هذا رأي شفيقة نور الدين، الزوجة الحقيقية لشاهين طالب بطل القصة الفعلي، فقد آذاها أن أحداً ممن كتب وصوّر لم يرجع إلى الأسرة للحصول على أي معلومة أو التأكد منها، ولم يقدّم أي منهم نسخة من كتابه كهدية، ولا بطاقات لحضور عرض الفيلم الذي أظهرها بهذه الصورة الفاحشة التي استهجنتها حتى لجنة تحكيم أحد المهرجانات المتخصصة في بلد اشتراكي صديق!
عزمت الزوجة على مقاضاة إغراء، لكنها استنتجت أنها أعجز من أن تواجه السينما الوطنية الظافرة طالما أن سندها في الحياة يقتصر على ولديها الشابين؛ علي الذي يحضر في القصة طفلاً، وهو، عند إنتاج الفيلم عام 1972، صف ضابط متطوع، وإبراهيم الذي ولد أثناء تمرد والده، وكان قد حصل بالكاد على وظيفة بسيطة في مصنع الأسمدة الآزوتية بحمص.
لكن طرفاً آخر ما زال يتأذى من القصة كلما أثيرت، هو آل الشلّي (الشلة) من بلدة عين الكروم. وهم عائلة كبيرة ينتسب إليها علي الشلي الذي وشى بالفهد، وهو ليس خاله كما قال الكتّاب والفيلم دون تدقيق في الرواية الشعبية التي ما زالت تلاحق آل الشلي وتصفهم بسمة الغدر.
ينفعل أفراد العائلة مهددين بكشف المستور، ويفصح بعضهم أن القصة الحقيقية تختلف عن المرويات. فشاهين كان مجرد سارق دجاج ولم يكن صاحب قضية ليتم تشبيهه بالحسين أو بغيفارا. وبندقيته الموزر التي تحتفي بها الأغاني هي عهدة من الجيش الفرنسي الذي كان متطوعاً فيه حتى طرد منه لاعتدائه على امرأة علوية، ليحاكَم أخيراً بتهمة ثابتة هي قتل ثلاثة رعاة ماعز فقراء للاستيلاء على طعامهم وعلى ما معهم من مال قليل.
يقول آل الشلي، الذين يكثر فيهم الضباط كما يشيع بينهم اسم علي، إنه من المسيء أن يُعيَّروا لأن أحدهم سلّم قاطع طريق للعدالة، ومن المعيب أن يستمر هذا الحديث بعد أيام «الأزمة» التي اندلعت في 2011 وقدمت فيها العائلة أكثر من مائة «شهيد».
ينفعل أفراد العائلة مهددين بكشف المستور، ويفصح بعضهم أن القصة الحقيقية تختلف عن المرويات. فشاهين كان مجرد سارق دجاج ولم يكن صاحب قضية ليتم تشبيهه بالحسين أو بغيفارا
لكنهم يغفلون عن أن تلميحات أخرى تحيق بسمعتهم. فمنهم علي الشلي الذي غدر بالمتمرد الاستقلالي الشهير إسماعيل خير بك (مشير الجبل) الذي شكّل حكومة الدريكيش في منتصف القرن التاسع عشر، ثم التجأ إلى خاله الفعلي الذي قتله وأرسل رأسه إلى العثمانيين.
ومنهم علي الشلي، الضابط في سلاح الحوامات في ثمانينات القرن العشرين، الذي خان وديعة شقيقه حكمت، الرائد الوحشي في المخابرات العسكرية الذي ائتمنه على ما تجمع لديه من ثروة حصّلها من بيع الأسلحة للمتمردين الإسلاميين، ريثما يقضي بضع سنوات في السجن بعد تخفيف الحكم عليه بالإعدام.
أما أحدث طبعات علي الشلي فهو شاب كان يبيع القهوة للمارة حتى انخرط في اللجان الشعبية عقب قيام الثورة، وشكل مجموعته الخاصة مستفيداً من علاقات قريبيه النافذين؛ فؤاد العضو السابق في «مجلس الشعب»، والعقيد/العميد الطيار وائل، ليصعد اسمه بشكل صاروخي ويجمع ثروة من الإتاوات والخطف والإتجار بالمعتقلين وفرض الخوّات على سيارات الركاب والبضائع وصهاريج الوقود، مستفيداً من تبعية مجموعته لقوات «النمر»، قبل أن يرتبط بالفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد.
أما أحدث طبعات علي الشلي فهو شاب كان يبيع القهوة للمارة حتى انخرط في اللجان الشعبية عقب قيام الثورة، وشكل مجموعته الخاصة مستفيداً من علاقات قريبيه النافذين
يشتم أبو حسن، علي الشلي الأخير، حين يسمع هذه التهم، مؤكداً على بطولاته الوطنية، متفاخراً بالدماء التي أراقها في أرياف حماة وفي حلب وعلى أطراف العاصمة وفي غوطتها، مكرراً: «لولاي سقطت دمشق». لكن ما العمل بعد أن جمّده الروس في صيف 2018 وانفض عنه معظم رجاله وبات يحذر من مغادرة بلدته خوفاً من الملاحقة ولم يعد يملك سوى أن يتذكر زمنه الجميل، يوم كان حوله المئات وكان لا يتورع حتى عن مهاجمة حواجز الأمن العسكري، ولا يعبأ بنتائج شكاوى الحلبيين الميسورين للسلطة من ابتزاز حاجزه الخاص الذي كان على طريق خناصر، شريان الشطر الغربي من مدينتهم لسنوات.
يمسك الموبايل ويشغّل تسجيلاً لعرس أقيم في أيام العز تلك، ويطرب لصوت المغني الذي كان يصدح: «وينك يا علي الشلي... ولا إرهابي لا تخلي»...