سوريالية هولوكوست الأسد

2020.12.28 | 23:03 دمشق

a58ad6d3-92d6-455a-87f5-07c76a0d9466.jpg
+A
حجم الخط
-A

كثيراً ما كرر الكتاب الغربيون الذين كتبوا عن بنية وتاريخ نظام الأسد الأب سؤالاً يكاد يكون موحداً ولكن بصيغ مختلفة. من الذي يحمي نظام حافظ الأسد رغم كل الجرائم والمجازر التي ارتكبها بحق الشعب السوري وبحق مواطني الدول المجاورة وخاصة الفلسطينيين واللبنانيين؟ حتى اليوم لم يستطع أحد الإجابة على هذا السؤال، رغم بعض التفسيرات الغامضة والتي تحيل السبب إلى اتفاقات سرية دولية، وبخاصة مع تل أبيب لتنفيذه دوراً وظيفياً يؤديه.

في السنوات العشر الأخيرة وبعدما كرر الأسد الابن جرائم أبيه، وفاقه بالكثير منها لجهة تدمير المدن والبلدات السورية، وقتله لمئات الآلاف بكافة أنواع الأسلحة بما فيها السلاح الكيميائي، وتهجير الملايين وتغييبه في السجون لعشرات الآلاف وقتلهم تحت التعذيب، يزداد هذا السؤال إلحاحاً، لكن غالباً لا يطرحه اليوم سوى ضحايا النظام من السوريين والفلسطينيين واللبنانيين وبعض الكتاب العالميين المهتمين، أما مسؤولو حكومات الدول فإنهم سيتحدثون عن أزمة سوريا وتفاصيلها وأطراف الصراع فيها دون الاقتراب من جوهرها وبشكل خاص السؤال عن خيمة الأمان الدولية التي تظلل وتحمي هذا النظام منذ نشأته، ولا أحد استطاع تقديم تفسير أن كيف يبقى نظام في الحكم وقد ارتكب كل ما ارتكب بما يشكل سابقة لا يوجد ما يشبهها في التاريخ الحديث؟.

صور قيصر الذي ثبت لدى كل الخبراء الذين قاموا بفحصها أنها صور حقيقية لجثث آلاف قتلوا تحت التعذيب، والتي عرضت في العديد من المحافل الدولية، كانت لتطيح بأي حكومة في أي بلد من العالم، لكن في حالة نظام الأسد لم تستدعِ من صناع القرار الدوليين سوى الإدانات والشجب والضجيج الإعلامي مع مزيد من التعاون الأمني السرّي مع مرتكبها.

"ليس لدي أحد ينتظرني خارج السجن" سيقول لي شاب في صيدنايا. من المرات القليلة التي أتيح لي الإسهاب بالحديث مع شخص من الإخوان المسلمين، كانت مع هذا الشاب المعتقل في مدينة حماة عام 1982. "عائلتي، أبي وأمي وإخوتي، وأعمامي وأبناؤهم الذين يسكنون في الحي ذاته، جميعهم قتلوا في المجزرة". كان الناجي الوحيد من العائلة. لفتني أن طريقته في الرواية لم تكن تختلف في شيء عن الشهادات المصورة الحية لكبارٍ في السن نجوا من الهولوكوست، الذي تابعتُ الكثير منه بحسب ما أوردته الوثائقيات التلفزيونية والسينمائية. وهو يحمل الرقم/الشيفرة وشماً على باطن ساعده، كأثر مرئيٍ باقٍ من معسكرات الموت، يتحدث من كان طفلاً يوم الجريمة، كيف نجا بعد إعدام عائلته في معسكرات الموت أو في أفران الغاز النازيّة. الفارق الوحيد أن الناجي من الهولوكوست كان نجا من الموت وخرج إلى الحياة ليروي ويدلي بشهادته لجمهور يتبنى قضيته، بينما نجا هذا الشاب من مجزرة حماة ليذهب إلى جحيم سجن تدمر، دون أن يوصل لأحد في العالم ما حدث له ولعائلته ولمدينته.

تقدّر معظم المنظمات الحقوقية المحلّية والدولية تصفية ما بين 15 و17 ألفاً في سجن تدمر خلال حقبة الأسد الأب

بعض أفراد العائلة قتلوا في الشارع، والبقية تمَّ الإجهاز عليهم أثناء التحقيق معهم في المدرسة الصناعية، حيث نقلوا إلى هناك مع آلاف المعتقلين الآخرين وحشروا في غرف الصفوف وصالات الورشات. كان الوحيد الذي نجا من تلك المجزرة، فتم تحويله إلى سجن تدمر. ليتعرض هناك للمحكمة الميدانية التي تطلق أحكام الإعدام لأتفه الأسباب، ومع ذلك أصدرت تلك المحكمة الحكم ببراءته، ليبقى بعدها في تدمر لسنوات قبل أن ينقلوه من مهجع "الأحداث" كما كانوا يطلقون عليه هناك إلى سجن صيدنايا، ومن المعروف أنه لم يصل إلى صيدنايا بعد تدمر، إلا الأبرياء الذين لم يكونوا يستحقون حتى التوقيف لساعات في بلد آخر لا يحكمه نظام الأسد.

مات الآباء والأمهات وهم ينتظرون خبراً لم يصلهم عن مصير ابن لهم. أبناء وإخوة وزوجات كبروا وللآن لم يعلموا مصير الغائبين في ثقوب الأسد السوداء

تقدّر معظم المنظمات الحقوقية المحلّية والدولية تصفية ما بين 15 و17 ألفاً في سجن تدمر خلال حقبة الأسد الأب، معظمهم أعدم في مطلع الثمانينات، ولم يصرح النظام عن مصيرهم حتى اليوم. نعم، مات الآباء والأمهات وهم ينتظرون خبراً لم يصلهم عن مصير ابن لهم. أبناء وإخوة وزوجات كبروا وللآن لم يعلموا مصير الغائبين في ثقوب الأسد السوداء. مع مطلع التسعينيات، وبداية أول عفو عن السجناء السياسيين في سوريا، وخروج المئات منهم، سيعرف بعض الأهالي مصير أبنائهم من روايات السجناء الخارجين، ممن عاشوا معهم وربما شهدوا مصيرهم/ إعدامهم، وسيبقى الآلاف دون أن يعرف ذويهم عن مصيرهم حتى اليوم. ولست هنا بصدد الحديث عن المفقودين في عصر الأسد الابن بعد عام 2011 فهم بعشرات الآلاف، ويُعتقد أن معظمهم قد تمت تصفيتهم.

يذكر تقرير أنجزه باحثون وخبراء حقوقيون ربيع عام 2010 بدعم من منظمة "فريدوم هاوس" في واشنطن، أن تقريرهم عن واقع الاختفاء القسري في سوريا، يأتي بعد إهمالٍ حقوقي يصيب متابعه بالذهول، خصوصاً بعد انكشاف ما جرى داخل السجون السورية، وطرق التعذيب الفظيعة وحالات القتل المهولة التي جرت في السجن بدون حساب ولا حتى أي مراجعة حقيقية، مما أسس لأكثر أنظمة الشرق الأوسط شمولية وانتهاكاً لحقوق الإنسان.

في العفو الأول عن السجناء السياسيين عام 1991وكنا في سجن صيدنايا، سيتلو مساعد السجن أسماءً، من ضمن من صدر العفو بحقهم بحسب القوائم التي بين يديه، وسيجيبه من يعرف أصحاب تلك الأسماء، أنهم ما زالوا في سجن تدمر، ما يقدم دليلاً مأساوياً عن مدى الاهتمام الإداري لنظام الأسد بمصائر السجناء. لكن الأدهى والأكثر مأساوية، والذي لا يمكن أن يحدث في بلد آخر، ولكنه حدث في سوريا الأسد، هو تلاوة أسماء شملهم العفو ممن كانوا قد أعدموا في سجن تدمر قبل سنوات.

لم يكن الشاب الحموي يحمل على زنده الشيفرة النازية وهي يدلي بروايته دون كاميرات وتصوير، ودون جمهور يهتم سوى زميل يشاركه مأساة الاعتقال، لكنه كمثل ملايين السوريين كان وهو يروي يحمل في روحه شيفرة العار التي تفيد بأنه قد عاش في عصر نظام الأسد.