icon
التغطية الحية

سليمان البستاني: الدولة العثمانية قبل الدستور المغدور وبعده

2022.08.20 | 19:23 دمشق

كتاب
+A
حجم الخط
-A

مرّت قبل أيام قليلة الذكرى الرابعة عشر بعد المئة على انقلاب الرابع والعشرين من تموز الدستوري عام 1908، والتي طُبع آنذاك بمناسبتها كتاب "عبرة وذكرى أو الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده" ويصدر مجددًا بتقديم وتحقيق المؤرخ اللبناني خالد زيادة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في طبعته الثالثة (2019) في نحو 220 صفحة.

يقدّم السياسي والأديب سليمان البستاني في كتابه فقرات من أحوال السياسة العامة في أواخر أيام الدولة العثمانية بلغة أدبية رائقة، مع أن تلك "الأيام الأواخر" تبدو لنا كذلك، فهي بالنسبة للبستاني حين سطّر كتابه لم تصل إلى النهاية بعد، ولم يكن متشائمًا كما هو الحال لمن عاشوا بعد انفراط عقدها حينما دوّنه.

احتوى الكتاب على ما يمكن تسميته بـ"أربع وعشرين مادة تاريخية" تصف أحوال الإصلاح، الاستبداد، الحرية والتابعية (المواطنة) في الدولة العثمانية، وقد وضع "زيادة" مقدمة رسم بها السياق التاريخي ضمن لوحة ناقدة تحليلية لمثل هذه المدونة المولودة في زمان منفصم عسير.

بسط الكتاب أحوال "الماضي والحاضر والمستقبل" كما يصفه زيادة، فهو حاوٍ لمسرد أحداث وأسماء عايشها البستاني عيانًا وغيابًا، منهم المنادين بالحكم الدستوري النيابي في الدولة، من السلاطين الذين سبقوا عبد الحميد الثاني وحتى المساجين الذي كانوا ضحايا هذا الحكم "الاستبدادي".

سردُ البستاني.. تناقضٌ في اتساق

يشير زيادة كون سليمان البستاني ينتهج لغة "متناقضة" كما يبدو في ظاهرها في مدونته هذه، ولكنه يعود مرة أخرى وكأنه يكشف لنا عن هذا التناقض في السرد، فهو وصف في مواطن حديثه عن الاستبداد الفردي والجماعي أن الفردي ابتُلي به العثمانيين من دون الجماعي، ولكنه بعدها يعود ليكتب بلغة وكأنه متوجس ممن سيطر على الحكم بعد انقلاب 1908.

قضية أخرى متعلقة بالتعليم، وهي أن التضييق السياسي الذي حصل يقابله توسّع في التعليم، إلا أن هذا التوسع لم يكن ليصبّ إلا في مصلحة الحاكم، كما يبدو له، ولكن في نهاية المطاف فإن خرّيجي هذه المدارس العثمانية هم من قاموا بالثورة الدستورية! لم يخف وجود طلبة درسوا في الكليات "غير الوطنية" (الأجنبية) التي كانت بين جنبات الدولة آنذاك، والتي لها أثر على تخفيف تركيز الاستبداد بنسبٍ على مدى بعيد.

جاء على موضوع حريتيّ الصحافة والحرية الشخصية، وقارن التغير في الكتابة الصحفية بين عهد نشوئها قبل تولي السلطان عبد الحميد الثاني وبعدما تم تقويض تينك الحريّتين بعد خلعه بمدة، فهل كان استبشاره متسرع؟

على ذات النسق فهو يشبّه السلطان تارة بهولاكو بمصادرتِهِ الكتب ورقابته على المكتبات، وأخرى ينعته بـ"جلالة السلطان" وغيرها من الأوصاف التمجيدية لجهوده في نشر التعليم، وهذا له مبرره عندما نعلم أن الكتاب مطبوع حال حكم السلطان المعهود.

"حظيرة جامعة لِعِلية القوم وسفلتهم"

يصف البستاني "مجلس المعارف" الذي تم تدبيجه في سبيل السماح والمنع بنشر المطبوعات المختلفة بـ"الحظيرة الجامعة لِعِلية القوم وسفلتهم"، مُثلت صور الواسطة والمحسوبية بأبشع أشكالها، يُعيّن أحدهم في مجلسها فقط لينفذ أوامر نازلة في تحريف المؤلفات وتصحيفها بما يجعلها "مواد غير مضرّة" بحالة الطقس العامة.

أكثر من ذلك، فهو يصف "أدنياء القوم" أنهم قادرون على أن يتولوا وظيفة "قائم مقام أو وزير" فقط بجرّة قلم يكتبونها كذبًا وافتراء على فلان أو صحيفة علّانية. ومثلهم مُزوّرو الأخبار الغربية في سبيل عدم تلويثها سمع جلالته وتثويرها رعيته، فلم "يمت حاكم فرنسا غيلة، ولكنها الذبحة الصدرية"!.

لفت البستاني الانتباه إلى التجمعات العصبوية، التي وصفها المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني بالزبائنية، الممثلة للفساد في بيروقراطية الدولة، وذلك من خلال تسليط الضوء على عدة قضايا برزت في تنظيمات جهاز البريد، حظرًا لها وتوجيهًا، وفق أهواء الدولة وزمرتها الحاكمة.

أشار أيضًا إلى سيول الرشاوى والاختلاس والفساد المالي الذي اكتنف عهد "الاستبداد" في تعيين الرتب واستحقاقات الدولة وجوائز الموظفين قبالة نقل وتوصيل الأخبار دون تحقق منها، الكاذب يستوي فيها مع الصادق، ولا ينال سوطها إلا كثير من المظلومين، ومثله انتقاده تركيز تسليط جهاز التجسس في الدولة على الشعب لا على الجرائم والمفسدين.

المبالغة و"تطييب الخواطر"

لم يبتعد البستاني كثيرًا عن المبالغة في وصف الشبكة الجاسوسية في عهد عبد الحميد كونها ترصد الطير في عشّها والضبّ في جحره مُغفلًا وجودها في عهد الاتحاديين، أضف لذلك يقظته لوجود استبداد طغمة حاكمة قبل إعلان الدستور دون تركيزه على وجودها بعده وهي متناقضة أخرى أو حكم متسرّع.

مثل ذلك تناوله لقضية مقاتِل الأرمن والمسلمين في عهد السلطان المذكور حيث وصفها بدبلوماسية أنها الفتنة القائمة بين سائر الأطراف يقف خلفها جهل وتعمد زعامات الطوائف المختلفة، دون أن يركّز على تناولها بمزيد من البحث.

وهو الذي دقّقها له المحقق "زيادة" بالإحالة إلى (بذرتها) في عهد السلطان المذكور، والتي يُفهم كونها صدامات بين عصابات أكثر من كونها مجرد مذابح تعصّب بين طوائف بالجملة كما وصفها البستاني مع التأكيد على عدم خلو أوصافه من صحّة فيما يخص الطائفية.

الهجرة والتاريخ الاجتماعي

تناول مسألة الهجرة من "الممالك العثمانية" بطرح لا يخلو من العمق، إذ بسط القضية من أبعاد عدّة، طبقات المجتمع وطوائفه الدينية، الأسباب الاقتصادية والسياسية، البلدان التي هوجر إليها، ممتهني الحرف والزُرّاع المهاجرين من أبسطهم وحتى التجار ورجال الأعمال، وهكذا بسط في مقال مطول عنونه "الدستور والمهاجرة" مقدمة لبحث جادّ.

القومية وتوحيد التجنيد واللغة

البستاني يمثل في جوّ كتابه هذا أحوال الدولة قبل عواصف الحرب وسياسة التتريك التي سببت تصارع القوميات في أقصى حالاتها العرقية، لذلك فليس من المستهجن أن تبدو دعوته إلى المساواة في التجنيد بين الأديان كافّة -والتي هي دعوة التنظيمات والسلاطين المصلحين بالطبع- ومعها توحيد اللغة التركية كلغة جامعة للأمة، ليس مستهجنًا أن تبدو مخالفة لفكر قومي سيتفطّر فيما بعد.

حول شخصية سليمان البستاني ومقالاته

لم يبد أن شخصية البستاني تلك الشخصية الصدامية ضد الدولة، رغم كونه صاحب انتقاد، يتضح ذلك من أسلوبه اللغوي، فهو قد تولّى وزارة الزراعة في حكومة الاتحاديين، ولكنه لم يكمل المشوار معهم، لذلك فهو قدّم المبدأ على البرغماتية في زمان لم يكن من أصله يصلح أن يكون نفعيّ.

مع ذلك فهذه الوثيقة المهمّة ليست كافية من أجل استكشاف الجواب على سؤال "من هو سليمان البستاني؟" ولكنها تعطي أجوبة عن كنه الخطاب -وفق ميشيل فوكو- السائد في تلك الحقبة من جهة، وكذلك تجيب على طبيعته من وجهة نظر البستاني.

لم يبد البستاني مجرد مثقف عاديّ في زمانه، ففضلًا عن كونه من عائلة "البساتنة" العريقة في أفكار الإصلاح والأدب وحلقة الوصل بين ممالك الدولة الشاسعة، وتأثره الواضح بمدحت باشا والخفي بالكواكبي، فقد حاز بشبكة علاقاته الواسعة داخل الدولة العثمانية وخارجها قربًا يخوّله إعطاء وصف سديد من الأحداث.

يبدو أن مقالات البستاني جاءت كخارطة متشعبة وغير متكافئة في الطرح احتوت كلمات مفتاحية كالحرية والدستور والاستبداد وعلاقاتها الداخلية مع عوامل اجتماعية واقتصادية، وهذا طبيعيّ لما يكون استلم وزارة الزراعة ويفرد في مقاله حولها الصفحات الطوال تمامًا كموضوع الهجرة، يقابلهما قلة الحديث عن الصناعة والتجارة مثلًا، أو حتى ضعف محتواه السياسي وكونه نوع من التأثر بالداعية السياسية القائمة.

أضف إلى ذلك أن البستاني بدا عليه تسرّعه في استصدار الكتاب بُعيد الانقلاب الدستوري، يقول: "ولم يكد يمر عشرون يومًا على استلام الأحرار الحكم"؛ وبرأيي لو أنه أصدره في فترة لاحقة سيتغيّر رأيه بكل تأكيد، على سبيل المثال بعد انقلاب 1909 أو مع الحرب العالمية الأولى، ولكن لا يمكن للمؤرخ في أي حال تغيير الحدث الماضي، هذا مجرد بيان لطبيعة البستاني في تحمّسه لإعلان الدستور وتقديم مشروع إصلاحيّ في حال السلم لا الحرب حقيقةً.