سلطة البطل في دولة الكومبارس (الزند ذئب العاصي)

2023.05.05 | 06:29 دمشق

سلطة البطل في دولة الكومبارس (الزند ذئب العاصي)
+A
حجم الخط
-A

إذا كنّا نعتقد أنّ إرادة السوريين العاديين الذين هتفوا للحريّة عام 2011 لا تحتاج إلى التآمر مع قوى خارجيّة -كما ادّعى النظام- بل تعبّر عن طيف حقيقي واسع من السوريين العاديين الذين يريدون الحريّة؛ فهل يمكن الاستناد إلى تلك "الإرادة العاديّة" واعتبارها معيارا يحدد ما لحريّة السوريين وما للاستبداد؟

على المستوى السياسي يمكن الاتكاء على شرعيّة صوت "السوري العادي" ومن ثم تفنيد الفشل السياسي بغياب الديمقراطيّة وبالتالي غياب أثر "سلطة -إرادة " ذلك الإنسان بدلا من اتهام إرادته!

لكن بالمقابل: كيف يمكننا التمييز بين الحريّة وبين الاستبداد في المنتج الثقافي: هل يوجد أدب أو فنّ ديمقراطي؟

لعلنا نميل إلى أنّ مهمّة المنتج الثقافي الأولى لا تتركّز على تقديم الموقف السياسي من "السلطة" أيّا تكن؛ بل الموقف الثقافي من تلك السلطة عبر الانحياز إلى اعتبار "سلطة -إرادة" العاديّين خيّرة ومن ثمّ دعم حريّتهم، أو اعتبارها شرّيرة ومن ثمّ دعم الاستبداد!.

كلا العملين الدراميين أسندا المقولات الثقافيّة التي قدّماها للسوريين إلى فيلسوف؛ فظهرت مقولات "ميكافيلي": في مطلع حلقات "ابتسم أيها الجنرال"؛ وتكرر ذكر مقولات نسبها بطل "عاصي الزند" لـ "نيتشة"

تابع السوريون خلال شهر رمضان مسلسلي: "عاصي الزند" و"ابتسم أيها الجنرال"، وتبادل ناشطون سوريون -عبر مواقع التواصل الاجتماعي- ردود الفعل تجاه العملين: ولعلّ التفاضل لم يخرج عن انحياز سابق لجماعة معارضة هنا أو لجماعة مؤيّدة هناك؛ أو انحياز لتفوق الجميل والممتع فنّيّا بمقابل الأقل إمتاعا؛ لكن هل ثمّة اختلاف بين العملين في رؤيتهما لحريّة "الإنسان السوري العادي"!

اللافت أنّ كلا العملين الدراميين أسندا المقولات الثقافيّة التي قدّماها للسوريين إلى فيلسوف؛ فظهرت مقولات "ميكافيلي": في مطلع حلقات "ابتسم أيها الجنرال"؛ وتكرر ذكر مقولات نسبها بطل "عاصي الزند" لـ "نيتشة"؛ فلعلّنا إذن نمر سريعاً على موقف كلا الفيلسوفين من حريّة "سلطة -إرادة" الإنسان العادي؛ وسنستعرض في مقالتنا هذه مقولات مسلسل "عاصي الزند" على أن نستعرض "ابتسم أيها الجنرال" في مقالة تالية:

ميكافيللي (ت 1527) أحد فلاسفة أواخر العصر الوسيط؛ وقد عاش في جمهوريّة فلورنسا شمال وسط إيطاليا، وشهدت تلك الجمهوريّة النّاشئة في عصره اضطرابات داخليّة وعانت قلقا من أطماع الممالك القريبة. إذن ثمّة ثلاثة معطيات مهمّة حدّدت مفاهيم ميكافيللي:

1- تصورات العصر الوسيط عن عدالة التفاوت الاجتماعي بين: (الأمراء والنبلاء والشعب) واعتبارها قدر الله!

2- قلق الجمهوريّة النّاشئة "فلورنسا" تجاه الممالك القريبة.

3- تصورات ميكافيللي ذاته عن "الطبيعة الإنسانيّة" المشوّهة بالحقد والطمع؛ ومن ثمّ فلا خيّر يرتجى من "سلطة -إرادة" عاديّة.  ورغم توفر برلمان في جمهوريّة ميكافيللي إلّا أنّ سلطة ممثلي الشعب في برلمان فلورنسا تشبه سلطة ممثلي الشعب في مجلس "المندوبان" العثماني؛ إذ لا تنبعث من إرادة الشّعب بل من منحة "سلطة -إرادة" الأمير، وسلطة الأمير من السّماء؛ ولهذا السّلطة المباركة ألّف ميكافيللي كتابه "الأمير" الذي يحتوي على جملة نصائح للأمير حول كيفيّة الاستحواذ على السلطة والحفاظ عليها.

إذن فميكافيللي لم يكن بعدُ علمانيّا يعتقد بالمساواة بين البشر ولم يتحدث عن سلطة مدنيّة؛ لكن خلال القرنين التاليين لميكافيللي وبتأثير نتائج اكتشافات العلم الطبيعي عن مساواة الطبيعة البشريّة بين "الأمير والنبيل والإنسان العادي" وإثر أعمال فلاسفة كـ "هوبز" و"جون لوك" و"مونتيسكيو": في الفصل بين السلطتين: الروحيّة والزمنيّة؛ تم الانحياز إلى "حريّة: سلطة - إرادة" الإنسان العادي؛ وتحديد مصالحها في حزمة حقوق مدنيّة؛ فتتغيّر مفهوم الدولة ومهمّة الحكومة المدنيّة تغيّرا جذريّا لصالح الإنسان العادي!

لاحقا لم ترق المساواة للفيلسوف العلماني نيتشة (ت1900) وكان لنيتشة تصور مشابه لميكافيللي عن طبيعة إنسانيّة "حاقدة وحاسدة" لكنّه رأى بدوره أنّ التفاوت بين البشر طبيعي وعادل استنادا إلى تفاوت "القدرة"؛ فالتفاوت بين طبقات اجتماعيّة دنيا وأخرى عليا إنّما يشهد على عدالة قوانين الطبيعة، و"الإنسان الأعلى" هو الذي يمتلك مؤهّلات التفوّق ومن ثمّ "الحريّة: إرادة- السّلطة"؛ أمّا الخير فمرهون بنجاح تلك القدرة وحده!

لم يكن البطل النيتشوي -الإنسان الأعلى- حاضرا على لسان بطل العمل الدرامي: "عاصي الزند" فحسب: بل في صميم شخصيّة البطل كذلك بدءاً من اسمه: "عاصي الزند" وما يتضمّن من قوّة، وبصفاته النفسيّة: "شجاع"، والذهنيّة: "ذكي"، والجسديّة: "قوي"، وسيرورته على المستوى الشخصي والعام: فقد قلع عين قاتل أبيه وهو طفل، واقتلع الثانية لاحقا، وأنقذ الإمبراطور الألماني في الحلقات الأخيرة!.

"القدرة" هي مصدر "الحريّة: إرادة السلطة" وقدرة البطل النيتشوي "عاصي الزّند" نابعة من ذاته فلا فضل لأحد عليه؛ ووحده الحرّ بما يكفي لـيحرر أرض وأجساد الآخرين، أو ليسلب أرضهم ويقتلهم على أنّ كلّ ما تحدثه إرادة البطل يكون خيرا؛ في حين إنّ محاولة أي شخص آخر غير البطل - كصديقي عاصي: خليل وصالح أو زوجته- ممارسة الإرادة؛ فإنّ تلك الممارسة سترتبط بالشر؛ أمّا السؤال الجاد: لماذا ترتبط بالشر؟ فلا إجابة سابقة عن نتائج المحاولة؛ بل لاحقة متعلّقة بضعف وقصور إرادة غير البطل عن إحداث الخير!

تمثّل الشّر بسلب أرض الفلّاحين بواسطة "الآغا وسميث"؛ وتمثّل الخير بإعادة أرض الفلّاحين للفلّاحين بواسطة البطل "عاصي"؛ وفي حين إن الفلّاحين، وهم أصحاب المصلحة في تحرير أنفسهم وأرضهم، فقد ظهروا بإرادة غير قويّة؛ وغير شجاعة؛ أو شجاعة وغير قادرة بمفردها على إرادة الخير وتحقيقه؛ في حين إنّ البطل وحده صاحب الإرادة العارفة والقادرة!

تقول إحدى شخصيّات العمل "حسيسون" لزوجته التي تداوي جراحه جرّاء الاعتداء عليه وتدعو الله على الظّالمين: "عاصي أخبرني أنه لن يترك منهم أحدا"!

ثمة فرق بين أن ينتمي البطل إلى قضيّة فيظهر من خلال إخلاصه لها وبين أن يكون البطل هو القضيّة وما سواه من الأشخاص والقضايا إنّما هي هوامش، تماما كوجود الوطن في أثناء تمجيد سيّد الوطن أو وجود الشّعب في أثناء تبجيل قائد الشّعب!

سيظل الإنسان العادي غير المبارك وغير البطل يتساءل: كيف يمكنه اعتبار "حريّة: إرادة -سلطة" عاصي في مسلسل عاصي الزند؛ أو "جبل شيخ الجبل" في مسلسل الهيبة خيرا فيما إرادة أعدائه شر؟!

نجح المسلسل إلى حدّ كبير بتقديم المقولات الثقافية المناسبة لنظام يريد من شعبه أن ينغلق على نفسه بوجه "الغريب الشرير" وأن يتصالح مع القائد الذي قتل كثيرين من بينهم رفاقه؛ لكنّه كان عادلا!، وتسبّب في حصار أهالي القرية؛ فكان الحصار خيرا لهم! ما منح البطل ثقة اجتماعيّة تشبه تلك البركة السماويّة التي يحصل عليها الأمير في العصر الوسيط فحاز البطل لا على "حريّته: سلطة إرادته" بل على حق: "حريّة: إرادة السّلطة"!

حاول السيناريو طرح تساؤلات إشكالية التمييز بين "إرادة- سلطة" كلّ من الآغا وعاصي فكلاهما أراد الاستحواذ على أراضي الفلاحين؛ وكاد أن يُسقط البطل لكنّه عاد لضبط السياق: فما يفعله البطل مختلف وعادل!

لكن بالمقابل سيظل الإنسان العادي غير المبارك وغير البطل يتساءل: كيف يمكنه اعتبار "حريّة: إرادة -سلطة" عاصي في مسلسل عاصي الزند؛ أو "جبل شيخ الجبل" في مسلسل الهيبة خيرا فيما إرادة أعدائه شر؟!

الموسيقا الحماسيّة؟

لأنّ البطل محلّيّ؟

ألم يثبت الواقع أنّ بعض القوى المحليّة قتلت الفلاحين وهجّرت من بقي منهم حيّا وباعت أراضي الفلّاحين لروسيا وإيران؛ فهل كانت قوى وطنيّة!

وهل نمطيّة العدو الغربي ظلّت واقعيّة وربع السوريين في الغرب وبقيّة السوريين -ربّما كثير من ممثلي العمل- يحلمون بالوصول إلى الغرب!؟

إذن ثمة مقولات ثقافيّة يمكن أنّ تمر عبر –الجميل والممتع- لا تحترم واقع المتلقين ولا تاريخهم، بل تسلب إرادة جميع الممثلين لينفرد البطل بالسّلطات المطلقة في دولة الكومبارس.