سراب الفصل بين نظام الأسد وإيران (1)

2023.03.29 | 05:58 دمشق

سراب الفصل بين نظام الأسد وإيران (1)
+A
حجم الخط
-A

حافظ الأسد والملالي قبل الثورة الإيرانية 1979

كثرت الحكومات العربية التي تريد التطبيع مع نظام الأسد مبررة ذلك بعدم ترك سوريا للهيمنة الإيرانية. حديث العرب هذا أقدم مما يظنه البعض، ولا يرتبط بما يجرى في سوريا بعد الثورة 2011 ودعم إيران اللامحدود لنظام الأسد مادياً ومعنوياً وعسكرياً لقمع الانتفاضة السورية. فقد حاولت بعض الدول العربية في الماضي إبعاد الأسد عن إيران وأغدقوا عليه الأموال لسنوات ولكنهم لم ينجحوا في مسعاهم في أي مرة بل تعرضوا لابتزازه. وربما يعلمون هذه المرة أنهم لن ينجحوا، لأن الأسد الابن بقي بفضل الدعم الإيراني والروسي الجدي، وتخاذل داعمي الثورة السورية ومحاولتهم استغلالها، ومعاداة البعض لها وللربيع العربي. أما وقد بقي الأسد مسيطراً على سوريا فيرى هؤلاء أنه لا بد من التعامل معه وترغيبه بالعلاقات والمال وإعادة الإعمار عله يبتعد عن إيران، مع أن هذه السياسة اُتبعت أيام حافظ الأسد وأثبتت فشلها في الفصل بينه وبين إيران، حتى في المواقف المفصلية التي لا تحتمل المناورة التي أتقنها.

ما لا يعرفه كثيرون أن العلاقة الاستراتيجية بين نظام الأسد -منذ الأب- وإيران وبالتحديد الملالي وعلى رأسهم آية الله الخميني وجماعته قديمةٌ. ويظن هؤلاء خطأً أنها بدأت بعد "الثورة الإيرانية" عام 1979، عندما قدم الأسد الدعم بما فيها العسكري لإيران ضد العراق في "حرب الخليج" على خلفية الصراع بين نظام البعث في العراق بقيادة صدام حسين وبعث سوريا.

والصحيح أن العلاقة بين الأسد الأب والملالي تعود إلى ما قبل الثورة الإيرانية التي شاركت فيها جميع شرائح وتيارات الشعب الإيراني قبل أن يستولي عليها الخميني ويقصي من شاركه الثورة. لم يكن الأسد في وارد التفكير في دعم ثورة شعبية ديمقراطية ضد حكم الشاه الديكتاتوري، لكنه كان قد بدأ بنسج علاقات في المنطقة على أسس طائفية قدم بموجبها الدعم للخميني وجماعته مع أنه، في الوقت نفسه، كان يضطهد التيارات الإسلامية في سوريا قبل أن يدخل في مواجهة مفتوحة معها وصولاً إلى مجازر الثمانينات.

يُرجح أن تكون العلاقة بين الأسد والخميني قد بدأت منذ أن كان الأخير لاجئاً في النجف بالعراق. عبد الحليم خدام، نائب الأسد، في مذكراته التي نشرتها جريدة الشرق الأوسط، يُرجع الفضل في نسج تلك العلاقة إلى الإمام موسى الصدر، الزعيم الشيعي اللبناني الذي كان على علاقة قوية مع الأسد منذ استيلائه على السلطة في سوريا. وعلى حد تعبير خدام أيضاً في كتابه الضخم "التحالف السوري الإيراني والمنطقة" فقد كان الأسد يثق بالصدر ثقة عميقة ويعتبر الطائفة الشيعية في لبنان الأكثر قرباً من نظامه واستجابة له. ومن المعروف أن الصدر، الشخصية المثيرة للجدل، هو من قاد الصعود السياسي للشيعة في لبنان وتكتلهم في بداية السبعينات في كيان طائفي سياسي كباقي الطوائف بعد أن كانوا ينتمون إلى التيارات القومية واليسارية. وفي الفترة نفسها، كما هو معروف، اعتمد الأسد التضامن الطائفي لسيطرته على السلطة. وفي هذا السياق قدم الصدر المساعدة للأسد للخروج من أزمة "شكلية" واجهته بداية حكمه، عندما رفض العلماء السُنة السوريون أن يكون الأسد رئيساً لأنه علوي بينما العرف والدستور السوري ينص أن يكون الرئيس مسلماً، ولتجاوز المشكلة أصدر الصدر فتوى تعتبر العلويين أتباعاً للمذهب الجعفري شأنهم شأن الشيعة الاثني عشرية.

مما تسرب إلى الصحافة العالمية تزويد الأسد رجال الخميني بجوازات سفر دبلوماسية سورية، وبطاقات صحفية سورية، لتسهيل تنقلهم في العالم. كما عرض على الخميني الإقامة في سوريا

لم يكن الصدر مجرد زعيم ديني محلي فهو من مراجع الشيعة المعتبرين وله امتدادته وسط العلماء الشيعة في لبنان والعراق وإيران التي ولد فيها. وقد قدم الدعم لرجال الثورة الإيرانية قبل قيامها، بل كان العديد من قياداتها يعتبرونه مرجعهم، ومنهم أول رئيس لوزراء إيران مهدي بازركان، ووزير الخارجية إبراهيم يزدي ونائبه صادق طبطبائي ابن أخت الصدر. وعندما أسس الصدر حركة أمل كأول تنظيم سياسي لشيعة لبنان ساهم معه في ذلك مساعده القيادي الإيراني مصطفى شمران (چمران) الذي أصبح أحد أعضاء مكتبها السياسي قبل أن يُعين كأول وزير دفاع في إيران بعد الثورة وقائداً للحرس الثوري. ومن المعروف الدعم الكبير الذي قدمه الأسد لـ"حركة أمل" والشيعة في لبنان في سياق عبثه بالمكونات الطائفية لتحقيق مصالحه. وفي تلك المرحلة استخدم الأسد إمكانات الدولة السورية لدعم جماعة الخميني قبل ثورته، فمما تسرب إلى الصحافة العالمية تزويد الأسد رجال الخميني بجوازات سفر دبلوماسية سورية، وبطاقات صحفية سورية، لتسهيل تنقلهم في العالم. كما عرض على الخميني الإقامة في سوريا بعد أن طلبت منه الحكومة العراقية عام 1978 مغادرة العراق، ولكنه فضل الذهاب إلى باريس.

وفي دليل على تلك العلاقة الحميمة كان حافظ الأسد أول زعيم عربي، وربما في العالم، يرسل تهنئة رسمية لآية الله الخميني في 12-2-1979 أي ثاني يوم انتصار ثورته، كما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية، وهو ما لم يذكره عبد الحليم خدام في كتابه المذكور آنفاً. وبمقابل حماس الأسد للخميني صدرت مواقف مغايرة عن باقي الدول العربية، فقد نظر العراق بتوجس وريبة على الرغم من أن الخميني كان لاجئاً سياسياً في العراق منذ 1963 وحتى 1978. أما السعودية فقد عبرت عن قلقها خاصةً من نفوذ الشيوعيين في الثورة قبل أن يعلن الخميني عن رغبته بتصدير ثورته. أما منظمة التحرير الفلسطينية، المتألمة من اتفاقية كامب ديفيد، فقد أصدرت بياناً "تنبأت فيه بقيام حكم عظيم يضع المنطقة على حافة تغييرات مصيرية"، قبل أن ينقض أتباع الخميني على الفلسطينيين في لبنان رغم احتضان منظمة التحرير لهم في البداية وتدريبهم مع المعارضة الإيرانية في معسكراتها. كما رحب بالثورة الإيرانية في البداية كثير من الإسلاميين في البلاد العربية، ومنهم الإخوان المسلمون، على اعتبار أنها جاءت في سياق المد الإسلامي في المنطقة، قبل أن يكتشفوا التوجهات الطائفية لها.

يلتقي نظام الأسد مع إيران بما أصبح معلوماً للجميع بالتضامن الطائفي لتحقيق نفوذها في المنطقة عن طريق دعم المكونات الشيعية

إذا أردنا الذهاب في تفسير العلاقات الطائفية واستخدامها سياسياً سنجد لها امتدادات تعود إلى مئات السنين، وقد كتب عنها العديد من المؤرخين. أما حديثاً فمن الواضح أن نظام الخميني ونظام الأسد استخدما التضامن الطائفي كأحد أهم أسس حكمهما وتحقيق مصالحهما الاستراتيجية. لذلك اعتبرت عصبة الأسد العلاقات مع ملالي إيران وباقي ملالي المنطقة علاقة استراتيجية تساعدها في مواجهة أي تهديد لسلطاتها مستقبلاً، وهو ما ثبت بعد 2011. واستخدام الأسد وعصبته للتضامن الطائفي ليس بجديد، فقد كان أساسياً في نسج علاقاتهم ومصالحهم، وتوسع هذا التضامن من استخدام العصبية الطائفية العلوية الأصغر إلى الشيعية الأكبر، وتعداه إلى التضامن الأقلوي الأوسع ليشمل طوائف وأقليات أخرى لها امتدادتها المحلية والإقليمية والعالمية. وبذلك يلتقي نظام الأسد مع إيران بما أصبح معلوماً للجميع بالتضامن الطائفي لتحقيق نفوذها في المنطقة عن طريق دعم المكونات الشيعية، وحال لبنان والعراق واليمن والبحرين ليس بخافٍ على أحد. ومن أجل تحقيق مصالحها استطاعت المكونات السياسية الطائفية (ملالي إيران، نظام الأسد، الحوثيين، الأحزاب الشيعية العراقية واللبنانية) أن تتجاوز الخلافات المذهبية العميقة بينها.

ويبدو أن الأسد الأب استطاع في البداية إدارة علاقاته مع إيران بما يحقق مصالحه ومصالحها، ويستثمر علاقاته معها لتحقيق مصالحه العربية والدولية، قبل أن تصبح إيران لاحقاً الطرف الأقوى في العلاقة، ويصبح الأسد أحد أطراف شبكة تأثيرها ونفوذها في المنطقة، وهو ما سيتناوله المقال التالي.