زلزال القهر والهوية الإنسانية للسوريين

2023.02.22 | 06:11 دمشق

زلزال القهر والهوية الإنسانية للسوريين
+A
حجم الخط
-A

رغم أنّ التداعيات الإنسانية للزلزال المدمر الذي ضرب سوريا مؤخراً تظل من منظور حسابات الأطراف الفاعلة بضعة نتائج ثانوية قياساً بالناتج السياسي "المُرتجى"، وما يتركه من أثر على مستوياته المختلفة، إلاّ أنه منح السوريين، -الذين وجدوا أنفسهم مجدداً مستندين إلى فراغ، فلا من يسمون أنفسهم بـ"المعارضة" ولا حكومة الأسد تحركت بالشكل المطلوب لإنقاذهم- منحهم إحساساً عارماً بالسيطرة على الأحقاد المتراكمة والجروح الملتهبة، بدلاً من الشعور بأنّ الأشياء السيئة تحدث بلا سبب، بدلالة أنه وعلى الرغم من أنّ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، قال حرفياً: (لقد خذلنا الناس في شمال غرب سوريا، إنهم محقون في الشعور بالتخلي عنهم)، فإنه يصدق مقابل هذا الخذلان قول الثعالبي في كتابه "سحر البلاغة وسرّ البراعة": (العزل طلاق الرجال، والمحنة صيْقلُ الأحوال)، فالزلزال، لا شك، صقل قلوب السوريين تماماً كما تُصقل السيوف، إذ تكشفت على السطح لهفةٌ جامحة جمعتهم أخيراً على قلب واحد. لهفة "تبشّر بالخير"، وربما تؤسس لعهد "وطني سوري" جديد مترفع عن الطائفية والمناطقية.

ما جمع السوريين حقاً الرعب الجارف الذين تربوا عليه خلال خمسة عقود. ذات الرعب الذي عاينوه بشكل مماثل تحت منازلهم المهدمة وهم يلقّنون أطفالهم الشهادة تحت الأنقاض

فعلياً، ما ظهر من تماسك مجتمعي بين شتّى المكونات السورية، يبدو فرصة ذهبية نادرة للمضي نحو حلّ وطني جامع، وإثبات أنّ السوريين يتمتعون بالحدّ الكافي من الطيبة والإيثار. يحدث هذا بعدما دخلت سوريا في دوامة عميقة من التجاذبات السياسية التي قطّعت أوصال البلاد والعباد، وانتهت بحكومة خالدة لا يحقّ لأحد أن يقول لها كيف ولماذا ومن أين!، فوجد السوريون أنفسهم بعد عام 2011 في جمهورية رعب أكثر توحشاً وسادية، مقابل ذلك لا يوجد مجال للإنكار بأنّ للزلزال المدمر وجه مشرق آخر، وهو أنه أعاد للسوري هويته الإنسانية بعدما كان هنالك من يعتقد أنّ الحرب أظهرت الكثير من السوريين كأشخاص سيئين وقتلة وحاقدين. فما جمع السوريين حقاً الرعب الجارف الذين تربوا عليه خلال خمسة عقود. ذات الرعب الذي عاينوه بشكل مماثل تحت منازلهم المهدمة وهم يلقّنون أطفالهم الشهادة تحت الأنقاض.

يؤكد التاريخ مجدداً أنّ الكوارث والنكبات والنوائب توحد ولا تفرق، تعفو ولا تألب، وهل أدلّ على ذلك من تلك السيدة "المسيحية" التي خلعت الغطاء عن رأسها لتضعه على رأس امرأة "مسلمة" خرجت من تحت الأنقاض، أو ذلك الرجل الذي جمع كلّ مؤونة بيته وانطلق بها من طرطوس إلى اللاذقية على دراجة نارية لكي يوصلها إلى المهجرين، أو ذاك العسكري الذي يقف على الحاجز، فتبرع بكيلو رز من بيته، لأنّ هذه إمكاناته فقط. ولعلّ أجمل ما حصل على الإطلاق أنّ مدينة إدلب المنسية، ورغم الخلافات السياسية بينها وبين جيرانها تعود إلى الواجهة من جديد، ليقدم أهاليها مساعدات أرسلت إلى كلّ من حلب واللاذقية وجبلة. فالزلزال كان كاشفاً لذوبان هذه التوترات باعتبارها قضايا جانبية وليست جوهرية عند النظر إلى حجم الكارثة الطبيعية.

اللافت أنّ طغيان من شاع شرّه، وامتد فساده، وخرّب طغيانه، وفرّقت سياسته، وأضعفت قراراته، راح يعتاش على كارثة البلاد المدمرة، فبعد فترة قصيرة على وقوع الزلزال، لم يكن ردّ الفعل العلني للنظام السوري هو الإعراب عن التعازي لكلّ السوريين المتضررين من المأساة، وإنما استغلال شخصياته الرئيسية لمحاولة تحقيق شرعية فعلية للأسد على المسرح العالمي، وحتى في زيارته إلى حلب التزم الأسد الصمت بشأن الزلزال، باستثناء المنشورات العامة من المكتب الرئاسي التي تظهره وهو يعقد اجتماعاً طارئاً للتعامل مع الأزمة، ثم تُذكر الرسائل التي تلقاها أو الاتصالات الهاتفية التي أجراها مع قادة دول عربية وغربية، أعربوا عن تعازيهم الحارة، أو عرضوا تقديم مساعدات إنسانية.

بالتالي يتبين، مرّة بعد أخرى، أنّ النظام السوري سبّاق ماهر في ماراتون "قنص المكاسب الدموية"، وعليه لن يتوانى اليوم عن غرز مخالبه في حلوق ضحايا الزلزال ليثبّت كرسيه "المقدس"، يستخدم أذرعه الإعلامية لاستثمار ما حصل بغية الضغط على المجتمع الدولي من أجل إلغاء العقوبات المفروضة عليه وفكّ الحصار الاقتصادي. لا شك النظام الأسدي قد سُرّ بالكارثة، وظهرت في الإعلام ضحكات الأسد العريضة عند زيارته مؤخراً لمواقع تأثّرت بالزلزال، آملاً بالمساعدات الخارجية لتنقذ اقتصاده العصبوي المتهالك، ولتعطيه منصة يطلب من خلالها رفع العقوبات الغربية والأممية عن كاهله. لا يضيره، بطبيعة الحال، تأخّر عمليات الإنقاذ، وزيادة أعداد الضحايا، أو انحسار الآمال بخروج من كانوا أحياءً، أحياء من تحت الأنقاض.

أقدمت حكومة الأسد على اعتقال ناشط من محافظة اللاذقية بعدما عرّى عمليات سرقة المساعدات المتوجهة للمتضررين في المنطقة الساحلية من قبل عناصره و"شبيحته"

على صعيد متصل، فإنّ الكثير من المساعدات وصلت عبر مطارَي دمشق وحلب اللذين يخضعان فعلياً لسيطرة النظام السوري، في حين لم يحصل المحتاجون إلا على النذر القليل، لتنشر صفحات موالية تسجيلات توثّق سرقات المساعدات من أماكن التوزيع، كما نشرت صوراً لعبوات غذائية وحليب أطفال وبطانيات وأوانٍ وغيرها يتمّ عرضها على منصات التواصل للبيع بكميات كبيرة وفي مناطق مختلفة. في السياق تحدث صحفيون عن اختفاء شاحنة مليئة بالمساعدات والأغطية والمراتب، كانت قد وصلت ملعب الحمدانية في حلب بغرض توزيعها على المتضررين الذين افترشوا أرض الملعب في العراء والطقس البارد. ولتزيد طين القهر بلّة أقدمت حكومة الأسد على اعتقال ناشط من محافظة اللاذقية بعدما عرّى عمليات سرقة المساعدات المتوجهة للمتضررين في المنطقة الساحلية من قبل عناصره و"شبيحته".

وعلى نهج أهل السياسة الذين يبحثون عن بقعة ضوء في الجدار الحالك السواد، يتشبثون به لرفع معنويات الناس، يمكن الجزم بأنّ الرؤية ازدادت وضوحاً لدى السوريين، وعزّزت من وحدتهم في كلّ المناطق المتنافرة، بل أظهرت الطيّب من الخبيث، بقوة الوقائع الملموسة التي لا يستطيع أحد إنكارها!. في المقابل على النخب السورية كلّها، كلها دون استثناء، خاصة تلك التي كانت مغيّبة تابعة ومرتهنة، وربما لا حيلة لها في الزلزال السياسي والاقتصادي والحربي، تماماً كما بدت هذه الأطراف معدومة الحيلة وهي تواجه كارثة الطبيعة الأخيرة عليها حين ترى الجانب المضيء من الزلزال المدمر الغاصّ بالأوجاع كما الآمال، أن تعيد النظر في قناعاتها ورؤيتها وثوابتها، وخصوصاً في عملها الوطني الجاد الذي زادت ضرورته والحاجة إليه.

لا أبالغ إذ أقول إنّ حال السوري اليوم يشبه حادثة تلك الأم التي فاجأها مخاض الولادة تحت الردم، وسلّمت وليدها لفرق الإنقاذ قبل أن تسلّم الروح إلى بارئها، لتضع صغيرها في مواجهة حياة محفوفة بالآلام والآمال. وربما تكون في قصة هذا الوليد الناجي، وفي سواها من المفارقات المماثلة، ما قد يوحي بتغييرات جديدة في أحوال سوريا، بعدما تنتهي مشاهد الرعب كلها.

"ما أشبه النكبة بالبيضة، تُحسب سجناً لمن فيها وهي تحوطه وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضى إلى غاية، ثم تنقف البيضة فيُخرَج خلقاً آخر". عبارة أوردها الأديب الرافعي في وحي قلمه عن أحد البلغاء، تُجسّد حالة مطردة في الأمم على مرّ الزمان: (إنّ المحن دائماً تُسفر عن مِنَح، ففي حرّها وسمومها تتربى الأجيال، فإذا هي الظلام الدامس الذي ينبلج منه ضوء الفجر، وهي العسر الذي يتمخض عن اليسر).