رواية مثقف سوري زمن «الحرب»

2021.11.29 | 05:50 دمشق

مناقشة رواية «الشرفة» في جمعية العاديات – فرع اللاذقية
+A
حجم الخط
-A

من شرفة منزلهما، في حي المزة 86 بدمشق، اعتاد الزوجان علاء وشذا أن يشربا القهوة ويتأملا المدينة في أيام الصحو. حتى جاء آذار 2011 حاملاً معه ضباباً رمادياً شفافاً غلّف مدخلها الغربي واتجه نحو الشرق «ليغمر ساحة الأمويين ومبنى وزارة الدفاع، ويدخل شارع الثورة»، كما يقول سليم عبود في روايته التي حملت اسم «الشرفة» وصدرت قبل أشهر عن وزارة الثقافة بدمشق (الهيئة العامة السورية للكتاب) ضمن سلسلة «مدونة الحرب» التي سبق أن ظهرت منها رواية «يوم ارتقى الشهداء» التي تحدثت فيها سهيلة العجي عن مصرع ابنها العسكري في قوات الأسد، و«حين يقاتل الصبار» التي تناول فيها علي إسبر نضالات الجيش، و«ورود من أرض النار» التي كتب فيها الضابط الطيار السابق صفوان إبراهيم عن «بطولات» زملائه في مطار منّغ العسكري بريف حلب.

ما يميز «الشرفة» عن سابقاتها أن مؤلفها كاتب وصحفي محترف، كما تقدّمه السيرة. فقد بدأ سليم عبود حياته المهنية في مجلة «جيش الشعب» في أوائل سبعينيات القرن الماضي. ثم كتب في صحف «البعث» و«الثورة» و«تشرين». وبين عامي 1975 و1990 عمل في مهمات لحزب البعث وكان عضو عدة مؤتمرات قطرية. ثم ترأس تحرير صحيفة «الوحدة»، الرسمية المحلية الصادرة في اللاذقية، من 1996 إلى 2006، وهو عضو «مجلس الشعب» من 2007 حتى 2011. فازت روايته «مطر أسود» بالمرتبة الثالثة لجائزة حنا مينه للرواية، والتي تمنحها وزارة الثقافة، لعام 2018. وهي رواية تتناول مرحلة «الحرب» أيضاً.

في تفسير سبب تسمية الحي يتجاهل الأديب، الذي يحق له ما لا يحق لغيره، أنه أخذ اسمه من الكتيبة (ثم اللواء) 86 من قوات الوحدة 569 (سرايا الدفاع)

في السادسة من مساء الأربعاء الماضي ناقش فرع اللاذقية لجمعية «العاديات» رواية «الشرفة»، بحضور كاتبها الذي «يعرف كيف يقبض على يراعه فيسيل مداده مفردات متشابكة من العبارات الأدبية، نسجت مداميك عمارتها في بنيان الرواية العربية السورية»، على حد تعبير الفرع. أما جريدة «البعث» فقد أثنت على «الشرفة» في مقال نشرته لآصف إبراهيم الذي تنبه إلى حضور حي المزة 86 كأحد أبطال الرواية التي تأخذنا «إلى مكان خبرنا أزقته وشوارعه وساحاته جيداً وألفنا طبيعة سكانه»، ومن هنا يصبح للقراءة طعم آخر.

في تفسير سبب تسمية الحي يتجاهل الأديب، الذي يحق له ما لا يحق لغيره، أنه أخذ اسمه من الكتيبة (ثم اللواء) 86 من قوات الوحدة 569 (سرايا الدفاع) التي كانت تتوضع هناك ثم أخذت ببناء المساكن العشوائية لمنسوبيها أو معارفهم. ويقدّم تفسيراً «يسارياً» يقول إن «أمانة العاصمة» عمدت إلى بقاء الحارة رقماً لأنها إذا فكرت في إزالتها ذات يوم تكون قد أزالت رقماً لا يثير احتجاجاً إعلامياً! منبهاً إلى التغير المتدرج في طبيعة الحي عمرانياً من الأبنية ذات الطابق الواحد إلى «الأبراج» التي بدأ يبنيها بعض رجاله وآخرون غرباء عنه. والأبراج عدو تقليدي للبساطة اليسارية الريفية، فهي تحوي «محال تجارية ازدحمت ببضائع مهربة من تركيا»، فضلاً عن «فنادق ونواد ليلية». وسط إشاعات تقول إن شركة خليجية ستهدم الحي وتعيد بناءه على النمط الحديث القائم على الأبراج.

تراوح الرواية بين زمنين؛ سنوات «الحرب»، وفق الوصف الثابت للمؤلف، وعامه الأول في دمشق، طالباً في كلية الإعلام التي سيتعرّف فيها إلى زوجة المستقبل وإلى مجموعة من الزميلات اللاتي وقعن في غرامه كذلك. وهو، إذ يرفض «التصدعات الاجتماعية» البغيضة التي شرخت حياة السوريين أخيراً دون أن يسمّيها، فإنه يترفع عن ذكرها عند تقديم بطلاته. فمن ستصبح زوجته هي شذا عز الدين، «الجولانية» من مجدل شمس، ومن سيقع في حبها مدة هي شادن الجاسم، السمراء «الفراتية»، أما هو، علاء غانم، فمن «مدينة ساحلية صغيرة». لا يميز بين السوريين، وربما بين عموم الناس، سوى انقسامهم إلى فقراء طيبين يمتلكون الحكمة وإن أعوزتهم اللغة للتعبير عنها، وبين أغنياء فاسدين بالضرورة. تمثلهم ريتا الفخراني، ابنة المجتمع المخملي، الزميلة العابثة شديدة الأنوثة والتي أرادته كمجرد نزوة، ورفيقها زهير المكتبي، طالب الاقتصاد ذو العينين الزرقاوين، «المخنث في صوته ولباسه»، والذي كان ينتقد نظام الدولة الاقتصادي لأن الله يعطي من يشاء ويحرم من يشاء.

قبل ثلاثين عاماً هزم بطلُنا المكتبي. غير أن السنين دارت ووقع مجد، الطبيب الجراح ابن علاء، في حب ابنة زهير، وتبع أسرتها في هجرتها إلى مصر، حيث تركوه مشرداً، يعيش مع ثلاثة سوريين في غرفة واحدة ويعمل في مطعم، وغادروا إلى ألمانيا بعد أن ورّطوه في قضية فساد.

ربّى «ابن الساحل» و«الجولانية» أولادهما الثلاثة على أن «العلم هو الضمانة». تحملوا الفقر والمنزل الضيق. ارتادوا سينما «الكندي» فقط، لأنها «تقدم أفلاماً جيدة ومختارة بعناية». في المرحلة الابتدائية اشترى علاء عوداً لمجد ثم غيتاراً لريم التي اعتادت الخروج من جو الحرب والقذائف بالغناء لفيروز. ورغم أنه صحفي وروائي لم يسافر الأب سوى مرة يتيمة إلى بيروت لحضور «ملتقى مقاومة التطبيع». وفي البلد لا يزور إلا أصدقاء قلائل. لكنه يهتم بحضور الأمسيات الأدبية في المراكز الثقافية، وربما بمناقشتها في مقهى قريب إثر ذلك. وهو يواظب على قراءة جريدة «الأخبار»، ويشتري صحيفة «الحياة» في اليوم الذي تنشر فيه لأدونيس. ولكن ما العمل إذا كان «هذا الزمن ليس زمن الثقافة»؟

مع توالي صفحات الرواية يقدّم لنا علاء، ببطء، شخصيتين لعبتا دوراً مركزياً في تكوينه. أولاهما خاله، الموظف الفاسد في الجمارك، صديق الفخراني ونسيب المكتبي، والذي ينصح ابن أخته منذ وطأت قدماه العاصمة أن يسارع إلى تصيّد الفرص، فالوضع هنا مختلف عن القرية. والثانية هي والده، الضابط الشريف المكافح. وفي إحدى مرات رجوع علاء بالذاكرة يستحضر المشهد بعد حصوله على البكالوريا، يوم أراد أبوه أن يدخله الكلية الحربية فقال الخال بشكل حاسم: «علاء سيدرس الإعلام».

استجاب الشاب لرأي خاله، مخالفاً رغبة والده.. وليته لم يفعل!