رائحة الكتب

2020.10.15 | 00:12 دمشق

books-030920-3.jpg
+A
حجم الخط
-A

في هذه العروة الحرجة من تاريخ الإنسانية، حيث يضمحلُّ النفيس، ويسود الغثُّ والسريع والعابر، حيث يغيرنا إيقاع الآلة، وتصطادنا الشبكات العابرة للقارات، المخترقة للجدران، العابثة بكل الخطوط الحمراء، والدفاعات التي عشنا زماناً طويلاً ونحن نتوهم أنها تعصمنا من هذا الاضمحلال.

في هذا العالم الذي يحصد فيه فيديو نخجل من غثاثته وانحطاط محتواه، خمسة ملايين مشاهدة، بينما تبقى كتبٌ لكبار الكتّاب على رفوف المكتبات لأعوام، لا يأبه لها إلّا ندرة ممن شغفتهم الثقافة وأخطأتهم شبكات التفاهة.

أتذكر حديثاً إذاعياً مع الشاعر والمؤلف السوري "عبد المعين الملوحي" في الثمانينات من القرن المنصرم، وهو الذي قدَّم للمكتبة العربية مئة وعشرة مجلدات بين مترجم ومؤلف ومحقق وديوان شعر، وزادت مقالاته عن ألف وخمسمئة مقالة في مئة وأربعة وأربعين مجلة، ذكر يومها أنَّ ما جناه من هذه الكتابة في خمسين سنة أو تزيد كتعويضٍ ماليٍّ، يقارب ما تتقاضاه راقصةٌ من الدرجة الثانية في شهرٍ واحد.

في كتابه الطريف والغني "رائحة الكتب" تفاصيل حميمية في الثقافة الإيطالية، يرسم الصحفي والكاتب الإيطالي "جيامبييرو موغيني" بريشة الفنان الخبير بورتريهات ملونة لكتب وكتّاب، عايشهم ومتح من مناهل نتاجهم الثقافي.

فهو يطوف بك عبر رواية إيتالو سفيفو "UNA VITA" الثلاثية، التي كتبها في ثلاثين سنة والتي يعد الحصول على نسختها اليوم ضرب من ضروب المحال، فقد تم نشرها عام "1892" وذلك بطباعة ألف نسخة على نفقة الكاتب، ومع هذا لم يبع منها إلا قليل.

يكتشف موغيني أن أهم القراءات التي قرأها، كانت في بواكير شبابه، حين بلغ

يعرف معظم من يدمنون قراءة الكتب، بذات الشغف الذي ينثال من عبارات موغيني، أننا نقرأ ونفهم مما نقرأ، بقدر وعينا وطبيعة تكويننا

التاسعة عشر من عمره، يذكر يومها أنَّه قرأ كتاب غرامشي "رسائل من السجن"، وهو يطوف بنا في عالم الكتّاب العمالقة الذين قرأهم وهو بعد في ميعة الشباب، فلا يذكر هل وعاهم حقا وهو في ذلك العمر، أم أنَّ الوعي جاء في زمنٍ لاحق.

يعرف معظم من يدمنون قراءة الكتب، بذات الشغف الذي ينثال من عبارات موغيني، أننا نقرأ ونفهم مما نقرأ، بقدر وعينا وطبيعة تكويننا ساعتها، لكننا ما نلبث أن نعيد هضم وفهم واستحضار فقراتٍ مرت بنا ذات يومٍ بعيد، ونعالجها بوعي اليوم، فتضيف إلى ما جنيناه جناً جديداً من قراءاتٍ قديمة.

"فرانكو فورتيني. عشرة شتاءات" 1957 (في يومٍ ما من تلك الأعوام أخبرني شخصٌ أن اللعبة انتهت بالنسبة لجيلنا الحالي، أوهام ما بعد الحرب العالمية الأولى قد تلاشت. مُنحنا الآن ما كان ممكناً، أفضلنا مات، أو كابد عذاباً طويلاً فيما بعد، الخيارات، والالتزامات، والقرارات صارت للدفاع، أو الغضب من فترة الشباب، واستحال الأمل حنقاً، وبددنا قوانا في محاولة فهم متى سيكون للعمر دور، غزا الشيب مفرق الرفاق، وتأخر الوقت على خوض حياة جديدة).

هذه الأسطر التي تحكي قصة اليأس والانكسار الذي اعترى بعض المثقفين إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، يحاكي إلى حدٍ بعيد، ما تحكيه زفرات الكثيرين ممن انكسروا بانكسار الربيع العربي، الذي نشهد اليوم كيف توارى جثته التراب.

كتاب "رائحة الكتب" رحلةٌ غنيةٌ في غاباتٍ كثيفةٍ من الكتب والمؤلفين، عبوراً بتلك المراحل التي أُلِّف فيها الكتاب أو تم نشره، وصدى بعض هذا لدى القراء والنقاد، وما رسخ في ذاكرته من تلك المطالعات.

هو أشبه بصياد تمتع في تعقب طريدته ثم نال حظه من شواء لحمها وما تلكأ أن يصنع من جلدها رسماً فنياً يحكي له تلك الذكريات كلما نظر إليه.

 يقول: (أنا أﺳﺘﻤﺘﻊ ﺑﻘﺮﺍﺀﺓ الورقة ثم الورقة ثم الورقة، فلا أفوتها، أتراني شخصاً يتغذى على أشباح؟ أفضِّل الكتب، وربما امرأة ما، هي تلك التي تذكرني بفترة شبابي، والشغف الذي صاحبها).

في صفحات كتابه يعرفك موغيني على عشرات الكتاب الإيطاليين، فتعرف منهم وتنكر، لكنه يعرفهم إليك بطريقة محببه، ملتقطاً من كل واحدٍ منهم عصارة ما أبدع قلمه.

يختم موغيني كتابه الرشيق بعشر رسائل بين روبرتو بازلن وانيتا بيزوني كتبت عام "1949" وفيها تتحدث انيتا عن شروعها بتأسيس دار للنشر وتطلب مشورة ومشاركة صديقها بازلن فيفاجئها برد غير مطروق، في سياق جوابه "الأولى أن تحددي متى سينتهي عمر الدار، لا ما لا ترغبين في نشره، كلانا يعلم أن لا شيء يدوم طويلاً في مدينة "ترييسته" سيحيط بك الكثيرون، ويمطرونك بعبارات الإعجاب، والوعود الزائفة بهدف جرك إلى مستنقع الترهات... لا تصدري الكثير من الجلبة الآن، اعملي بصمتٍ، واتركي بصمةً لا تنمحي مهما كانت صغيرة.

هل سيجرفنا التيار الرقمي، والكتاب الإلكتروني، وهل ستفقد ذاكرتنا الشمية رائحة الكتب، تلك التي صنعتنا بما نحن عليه اليوم؟!