رئيس سوري لثلاثة أشهر

2020.11.22 | 23:04 دمشق

hateb11182017.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان على الفريق حافظ الأسد أن ينجز كثيراً من الأعمال في تلك الأيام الأولى من قفزه إلى السلطة، في ما يسمى الحركة التصحيحية. من هذه المهام كان يجب أن يتولى أحد الرفاق الموثوق بهم رئاسة الدولة لمرحلة انتقالية قصيرة، قبل أن يستلم الأسد رئاسة الجمهورية رسمياً بعد استفتاء شعبي. سأل قائد الانقلاب رفاقه عن مرشح مناسب لهذا الدور لن يصدّق نفسه ويتمسك بالمنصب الشكلي العابر، فأجابه رفيق دربه مصطفى طلاس: «أبو حسان منضبط».

01_1.jpg

 

كان طلاس قد عرف أحمد حسن الخطيب، رفيقاً في حزب البعث ومعلّماً زميلاً في بلدة القريّا بريف السويداء، قبل أن يتطوع الأول في الكلية الحربية ويشق طريقه المعروف في السلك العسكري، فيما تابع الخطيب، المولود في قرية نمر بريف درعا، دراسته في المعهد العالي للمعلمين ثم في قسم اللغة العربية بالجامعة السورية (جامعة دمشق) واستمر في عمله كمدرّس حتى صار مديراً لثانوية جودت الهاشمي (التجهيز الأولى) الشهيرة. وبعد انقلاب البعث، الذي عرف بثورة 8 آذار 1963، صار الخطيب عضواً عادياً، بين قرابة مائة، في أول مجلس وطني لقيادة الثورة، ثم نقيباً للمعلمين، وهو المنصب الذي كان يشغله عشية الحركة التصحيحية.

يكاد عارفو الخطيب يجمعون على دماثته و«مسايرته»، ما جعله بعيداً عن التجاذبات الحادة التي شرخت صف رفاقه وأدت إلى انقلابات داخلية عنيفة. وقد التقط الأسد هذه الصفات في الرجل الذي لم يكن يعرفه بشكل شخصي من قبل، والذي تخلى بطواعية عن الرئاسة في شباط 1971، فاختاره لعضوية القيادة القطرية للحزب وسلّمه مهمتين كبيرتين؛ رئاسة أول دورة لمجلس الشعب المعيّن من الأسد عقب استلامه السلطة رسمياً، ثم رئاسة وزراء جسم وحدوي عربي يبدو غريباً الآن هو «اتحاد الجمهوريات العربية».

لفهم هذا الاتحاد تنبغي العودة إلى عام 1969، عندما استولى ضابطان انقلابيان شابان على السلطة في بلديهما، هما معمر القذافي في ليبيا وجعفر النميري في السودان. وقبل أن يتمكن الحكم من إغوائهما بجاذبيته سارعا إلى التواصل مع جمال عبد الناصر، «زعيم الأمة العربية»، ليعرضا عليه الاتحاد مع مصر تحت قيادته، في دولة تضم الأقطار الثلاثة وتكون خطوة على درب الوحدة العربية المنشودة حينها.

بدأت المباحثات التي لن تنتهي إلا بعد عامين جرى خلالهما حدثان مؤثران؛ فمن جهة مات عبد الناصر ولم يكن لخليفته، أنور السادات، كاريزما مماثلة، ومن جهة أخرى انسحبت السودان من الاتحاد المزمع ودخلته سوريا بعد أن ترأسها الأسد. فقد كان الانخراط السريع في مشاريع وحدوية وسيلة الانقلابين العرب لنيل المزيد من الشرعية الداخلية. لكن التبديل بين هذين البلدين غيّر طبيعة الوحدة المفترضة كلها، من «اندماجية»، بحكم تجاور الأقطار الثلاثة الأولى، إلى «اتحادية» بعد أن دخلتها سوريا التي لا تملك حدوداً قابلة للإزالة مع مصر وليبيا. ومع ذلك لم يكن هذا الاتحاد شكلياً تماماً بل حوى بعض الآثار الواقعية التي أعطت أحمد الخطيب دوراً تنفيذياً لم يحزه في منصبيه السابقين.

بالاستناد إلى أعداد من جريدة «الأهرام» المصرية في تلك المرحلة، أُعلن عن قيام «اتحاد الجمهوريات العربية» في مدينة بنغازي الليبية، في نيسان 1971، إثر اجتماع طويل للغاية عقده القادة الثلاثة؛ أنور السادات رئيس الجمهورية العربية المتحدة (مصر التي أصرت على الاحتفاظ بهذا الاسم الذي حملته دولة وحدتها السابقة مع سوريا أواخر الخمسينات)، ومعمر القذافي رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس الوزراء بالجمهورية العربية الليبية (قبل أن يحوّلها إلى جماهيرية عربية ليبية شعبية اشتراكية عظمى) وحافظ الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية (كان، وما يزال).

02_1.jpg

 

تقول «الأهرام» إن الاجتماع، الذي استغرق أربع عشرة ساعة، كان حرجاً إلى درجة أن الزعماء لم يتمكنوا من «أداء صلاة الجمعة في وقتها» ذلك اليوم. ولكن لا ضير، فقد أنجزوا «اتفاقاً تاريخياً» وقّعوه «في لحظة واحدة» قبل الفجر، وبقي مصورو وكالات الأنباء والصحف يوثقونه لمدة نصف ساعة كاملة بعدها، «ظل خلالها الرؤساء الثلاثة يتعانقون ويقبلون بعضهم بعضاً». وعمّت البهجة أعضاء الوفود الذين هتف جمع منهم: «إن شاء الله موفقين.. الله معكم.. الله ينصركم ويعطيكم القوة لإزالة آثار العدوان».

 

03.JPG

 

قال الاتفاق، الذي أعلن الرؤساء تفاصيله لاحقاً من عواصمهم القاهرة ودمشق وطرابلس، إنه جاء تأميناً لمسيرة النضال العربي التي رفع لواءها «القائد الخالد» عبد الناصر، وفي ظل صراع حاسم ومصيري تخوضه الأمة العربية اليوم (كانت، وما تزال)، وتصميماً على بناء الوطن العربي المتحرر، والتقاء بين الثورات الثلاث. وعلى هذه الأسس قرر الرؤساء أن تحرير الأرض المحتلة هو الهدف، وأنه لا صلح ولا تفاوض ولا تنازل عن شبر منها، ولا تفريط في القضية الفلسطينية ولا مساومة عليها.

وتقرر أن يكون للاتحاد دستور ومجلس أمة وحكومة. وهنا سيُطرح اسم أحمد الخطيب كرئيس للوزراء الاتحاديين كحصة سورية، بعد أن حجز السادات لنفسه منصب رئيس الاتحاد، وتحمس القذافي لتمويل المشاريع المشتركة لأولى محاولاته الوحدوية الثلاثة عشر. فرغم أن وثائق الاتحاد تنص على التمويل المتساوي إلا أنه، من الناحية الاقتصادية، كان وسيلة الشقيقتين الفقيرتين الأكبر، مصر وسوريا، لاستثمار الثروة النفطية لأختهما الصغرى، والتي كان الزعيم الليبي يبذّرها بسخاء.

وعلى هذا الأساس قامت شركات عديدة يجمع بينها الافتتاح باسم «الاتحاد العربي»، في المقاولات والتنمية الزراعية والمواصلات السلكية واللاسلكية والنقل البحري والتمويل وإعادة التأمين، قدِّر رأسمالها بالدينار الليبي وأشرف على تأسيسها أحمد الخطيب الذي منحته القاهرة، عاصمة الاتحاد، مقراً باذخاً. وهو فندق ضخم افتتح عام 1910 باسم هليوبوليس (مصر الجديدة)، كانت تملكه شركة فرنسية قبل أن يؤمم ويصبح مقراً لعدة جهات حكومية مصرية في الستينات، ثم يأخذ اسمه «قصر الاتحادية» بناء على أنه مقرٌّ لاتحاد الجمهوريات العربية، ويحافظ على هذا الاسم في عهد الرئيس حسني مبارك الذي اتخذه كمكان عمل. وإليه سيتوجه المحتجون مجبرين مبارك على الاستقالة في كانون الثاني (يناير) 2011، كثاني رئيس تطاله آثار الربيع العربي.

لكن مياهاً كثيرة ستجري في النهر قبل ذلك. إذ سار رئيس الاتحاد، أنور السادات، في طريق المساومة على الأشبار والصلح مع إسرائيل. واجتمع الأسد والقذافي وفصلا مصر من الاتحاد. بدورها ستسارع القاهرة إلى الطلب من الموظفين الاتحاديين الليبيين، ثم السوريين، مغادرة أراضيها. وهكذا سيعود الخطيب إلى دمشق عام 1977، رئيساً لوزراء اتحاد دخل في حالة موت سريري، قبل أن يتوفى، الخطيب نفسه، في مطلع الثمانينات.

بين هذه المشاريع الاتحادية يتذكر السوريون أصغرها. وهو شركة «الاتحاد العربي للنقل البري» التي بنيت وفق المنظور القومي ذاته، أملاً في تيسير تنقل مواطني الأقطار العارضة في أرجاء وطنهم العربي الكبير. وفي السياق السوري اكتسبت هذه الشركة أهمية خاصة، ببولماناتها الفخمة بالقياس إلى باصات «الهوب هوب» المتعِبة المستخدمة وقتها للسفر بين المحافظات، وبرحلاتها الخارجية إلى عواصم ومدن عربية وإقليمية، وخاصة إلى السعودية لأداء العمرة بتكلفة مناسبة.

 

04_1.jpg

 

لكن الشركة، التي شهدت أياماً ذهبية منذ تأسيسها وخلال الثمانينات، مع فورة التنقل الداخلي لأغراض الدراسة والخدمة العسكرية والعمل وغيرها، تلقت ضربة قوية بصدور قانون الاستثمار رقم 10 أول التسعينات، واتجاه الكثير من الشركات الناشئة إلى قطاع النقل وضخ بولمانات حديثة منافسة على الطرقات.

رغم محاولاتها العديدة، منذ ذلك الوقت وحتى الآن، لم تستطع «الاتحاد العربي للنقل البري» النهوض من وهدتها المركبة المكونة من ضعف الميزانية والوضعية القانونية القلقة كشركة في حكم القطاع العام الذي لم يقدّم لها سوى معونات طفيفة خلال «الأزمة» السورية المستمرة منذ سنوات وضربت كثيراً من خطوط النقل بين المحافظات وقلّصت تحركات «المواطنين» إلى حدود دنيا.

فبالكاد تستطيع الشركة الاستمرار في العيش الآن بفضل منحها، تفضيلياً، خط مطار دمشق الدولي، بعدما خضع النقل الجوي للمقاطعة وتوقف الإخوة، من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، عن زيارة قلب العروبة، وتركز عمل المطار في استقبال ميليشاويين عراقيين وإيرانيين وأفغان وسواهم، وإعادتهم في إجازات أو للدفن. وفي أحيان قليلة تمكنت الشركة من حيازة التكليف بمهام نقل سوريين جماعياً لمرة واحدة ذهاباً. كما عندما تولت، بفخر تعلنه، تهجير «الإرهابيين» من جنوب دمشق إلى الشمال في أيار 2018، وحين أسهمت في إجلاء السكان الشيعة من بلدتَي كفريا والفوعة بريف إدلب في تموز من العام نفسه.

05_0.jpg