ديكتاتور صغير يدشن بئر ماء

2022.06.13 | 06:46 دمشق

thumbnail_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

بثت مؤسسة «أمجاد» الإعلامية، المقربة من «هيئة تحرير الشام»، تقريراً مصوراً يظهر فيه زعيم هذه الأخيرة، أبو محمد الجولاني، «الفاتح» سابقاً، خلال «تدشين مشروع بئر مياه» في جبل السماق.

في التقرير، الذي تبلغ مدته قرابة ست دقائق، يمسك «القائد» بمفكرة أنيقة ويسجّل مطلب السكان إعادة تشغيل مشفى معطّل في المنطقة ثم يقول «شغلتنا نخدم الناس». بينما يثني أحد الوجهاء المتحدثين على «السياسة الحكيمة» للهيئة، ولا سيما في السنة الفائتة، ويؤيده آخر مضيفاً شكر «حكومة الإنقاذ».

في الحقيقة لم تبادر هذه «الحكومة»، وهي الواجهة المدنية لسيطرة «الهيئة» على إدلب، لمساعدة المنطقة على حل أزمة المياه. ما حصل هو أن السكان أنفسهم دعوا إلى جمع التبرعات من القادرين بينهم ووقّعوا عقداً مع شركة خاصة لحفر البئر قبل أن يلتقط الجولاني خصوصية المنطقة. إذ لا يخدم المشروع تسعاً من القرى الدرزية الثمانية عشرة في ريف إدلب فحسب، بل إنه يقع بالضبط في «قلب لوزة»، القرية التي سبق لأحد قادته، سفينة التونسي، أن ارتكب فيها مجزرة أودت بحياة ثلاثة وعشرين من السكان. لكن ذلك صار من الماضي الذي يحب الجولاني أن يتناساه. فقد حصلت الحادثة في مثل هذه الأيام من حزيران 2015، قبل سبع سنين كاملة من الزيارة الأخيرة. وفي إلماحة عابرة يقول إن «الشي القديم اللي صار.. نحن مانّا مسؤولين عنه كثير. والشخص اللي ارتكب الجريمة.. بتعرفوا شو صار فيه بالأخير».

ما حصل «بالأخير»، على حد تعبير قائد الهيئة، هو أن جهاز أمنها قتل سفينة في العام الماضي في أثناء مداهمة مقر مجموعة مسلحة غير منضبطة كان قد اتهمها بقتل وزير التعليم العالي في حكومة الإنقاذ. أما قبل ذلك فقد عوقب التونسي على المجزرة بعزله عن منصبه، وبالسجن لشهر واحد بتهمة نقض العهد. إذ كانت قيادة «جبهة النصرة» وقتئذ، متمثلة بالجولاني وأبي عبد الله الشامي (عبد الرحيم عطون) قد أعطت السكان الدروز مهلة عام واحد «للدخول في الإسلام» أو الخروج من المنطقة. وبدأ صبر سفينة ينفد وصدره يضيق قبل انتهاء المدة، فصار يأخذ تواقيع بعض الأهالي على أوراق «يعلنون فيها إسلامهم ويتعهدون بفتح المساجد وإقامة شعائر الدين»، حتى حصلت المشاجرة التي بدأت فردية وانتهت بمجزرة. وكما قال مطّلعون حكم القاضي أبو ماجد، شقيق الجولاني، وعطون نفسه، على التونسي بهذا الحكم القصير. ولم تنته مسيرة سفينة مع الجماعة إلا عندما قرر هو مغادرتها، محتجاً على ابتعادها عن الخط الذي بايعها عليه، وانضم إلى المجموعات المتفرقة على يمينها، وأخيراً قضى برصاصها.

 

(سفينة التونسي)

 

والحق أن مسألة الدين والطائفة أفعمت اللقاء بين الجولاني وأهالي المنطقة، ورفعت درجة التكاذب في التقرير، رغم أن الطرفين لم يذكراها بوضوح بل تبادلا فيها الأدوار رغم أنهما يعرفان «البير وغطاه». ففي حين قال أحد المتحدثين إن «مطلبنا الأساسي والأهم أنه نحن نتساوى مع كل هالناس وما نُعتبر نحن كطائفة» ظل الجولاني يخاطب ممثلي المنطقة بصيغة «أنتو جزء منّا»، مشدداً على أن الثورة «ما قامت على خلاف بالطوائف والأديان» ولكن لردّ الظلم، وأن «مشكلتنا مع النظام فقط». وحين ذكّر سامعيه بالآية «لا إكراه في الدين» كان يريد منهم أن يتحدثوا كطائفة، كان يحتاجهم «دروزاً» فيما كانوا يؤكدون على عموم الوصف بالإسلام. مضيّعين عليه بضعة عشر ألف دولار بادر إلى دفعها للشركة المنفذة بدلاً عن تبرعاتهم، متجاوزاً حكومة الإنقاذ الشكلية ووزارة الإدارة المحلية والخدمات فيها، حريصاً على تصوير الزيارة وبثها؛ طمعاً في اعتماده كحامي أقليات محلي بعدما اتخذ إجراءات عديدة لحماية المسيحيين وأملاكهم. وهو ما عاد إلى التأكيد عليه هنا حين قال إن «توجُّهنا على الشبيحة» في أمور العقارات، سواء كان مالكوها من السنّيين أو من غيرهم.

ورغم أنه ختم حديثه بالقول إن «جلستنا.. مو جلسة سياسية ولا نحن حابين نكسب شي من وراها»، أو بسبب ذلك، فإن الهدف التسويقي للتقرير واضح. وهو تكرار لما دأب الجولاني على تصديره في السنوات الماضية: نحن تغيرنا، وعفا الله عما مضى. لكن «ما مضى» أسال الكثير من الدماء المدنية والعسكرية، وفكّك فصائل واستولى على سلاحها، وسيطر على مناطق بالقوة، وكفّر الثورة وداس على علمها، وخطف صحفيين أجانب مقابل فدية. وحين يتحدث الجولاني، في هذا التقرير، عن رد المظالم لأهل المحرر، وإيصالها إلى أبواب بيوت أصحابها، فيبدو أنه يُلزم نفسه بسنوات من خدمة توصيل الحقوق إلى عناوين كثيرة!

ومن جهة أخرى فإن اللافت في كلامه أيضاً هو التصاعد الملحوظ، لقاء بعد آخر، إلى الإشادة بالاستقرار و«بناء المؤسسات» على حساب النزوعات العسكرية، جهادية كانت أم ثورية. فهو يبرر ضعف الإمكانات المقدّمة باستمرارِ وجود «حالة حرب نوعاً ما». متمنياً، بشكل بدا عارضاً، أن «تتحرر كل سوريا»، بغاية أن «يعمّ السلام فيها بشكل كامل». تماماً كما إدلب التي لا يستطيع الدفاع عنها ويتوقف بقاؤه فيها على التوازنات الدولية من الخارج وتعاظم سلطة أمنييه في الداخل، ولكنه يتغنى بسلامها وإعادة إعمارها.

أحد عشر عاماً تقريباً تفصل بين عبور الجولاني الحدود السورية مكلفاً من أميره البغدادي، وبين تربعه اليوم على كرسي محافظ إدلب، الذي اهتم جدياً بالحصول عليه عند سيطرة «جيش الفتح» على المدينة. تغيّر الكثير في أحمد الشرع وبقيت بعض ثوابت طباعه. ومما استمر منها حبه للأضواء، واعتقاده أن السياسة «فهلوة»!