دولة القانون وأزمة التصنيف

2023.05.25 | 05:45 دمشق

آخر تحديث: 25.05.2023 | 05:45 دمشق

دولة القانون وأزمة التصنيف
+A
حجم الخط
-A

مع وفاة الملكة إليزابيث أصبح ولي العهد الأمير تشارلز ملكاً جديداً لبريطانيا بشكل رسمي، وقد أقيم تتويجه في بداية الشهر الجاري أيار/مايو في مراسم وطقوس تعود أصولها إلى آلاف السنين، في حفل كبير يحضره كبار الشخصيات من جميع أنحاء العالم ويشاهده المليارات.

يعد التتويج تجمعًا رمزيًا للملكية والكنيسة والدولة في طقوس دينية يقوم في أثنائها الملك بتقديم عهود لكل من الرب والوطن، ليصبح تشارلز الثالث ملكًا على المملكة المتحدة ودول الكومنولث الـ14، بعد أن قلّده أساقفة كانتربري التاج، فيما قُرعت أجراس "ويستمينسر آبي" وأطلقت تحية البندقية في جميع أنحاء المملكة المتحدة.

تتألف المملكة المتحدة  من إنجلترا وإسكتلندا وويلز وشمال إيرلندا، وهي دولة ذات نظام حكم ملكي دستوري برلماني، ويمتلك الدستور البريطاني خصوصية تتعلق بكونه دستوراً مرناً قابلاً للتعديل في كل محتواه إلا فيما يتعلق بمبدأ سيادة القانون.

السؤال الذي نود طرحه هنا يتمحور حول علمانية بريطانيا من عدمها، وعلى سذاجة مثل تلك الأسئلة غير أنها قد تفتح أبواباً كثيرة للجدل، فمن الواضح أن الصورة العامة لبريطانيا أو لأوروبا مثلما يرغبون في تصدير صورتهم بأنهم دول علمانية تفصل الدين عن مؤسسات الدولة وتحكم بالقانون وتمنع تداخل صلاحيات المؤسسات بعضها مع البعض الآخر، غير أن ذلك ينافي كون الملك هو الرأس الأعلى للكنيسة، وأن الخطاب الخفي في بريطانيا يبدو دينياً أكثر من كونه محايداً في المجتمع أو في المؤسسات أو في وسائل الإعلام في أحيان كثيرة.

لو ذهبنا إلى عناوين الصحف في الشهر السابق، لطالعنا مواضيع مختلفة تصدرها خبر تولي "حمزة يوسف" رئاسة حكومة اسكوتلندا، مع التركيز على أن "يوسف" هو أول مسلم من أقلية مهاجرة يشغل مثل هذا المنصب عبر تاريخ البلاد

تضمن دساتير الدول المتقدمة عادة حرية التعبير وحرية ممارسة الشعائر الدينية وتصدر أوروبا نفسها على أنها عراب العلمانية في العالم، وتتهم أي ممارسة دينية في العالم العربي أو في الدول النامية بأنها نابعة من تخلف وجهل وتطبيق لتعاليم دين يدعو إلى الإرهاب، لكن ذلك لا ينظبق على ممارسات تابعي الديانات الأخرى مهما كانت تلك الممارسات مغرقة في أسطوريتها أو منبثقة من خرافات موروثة ومتداولة.

لو ذهبنا إلى عناوين الصحف في الشهر السابق، لطالعنا مواضيع مختلفة تصدرها خبر تولي "حمزة يوسف" رئاسة حكومة اسكتلندا، مع التركيز على أن "يوسف" هو أول مسلم من أقلية مهاجرة يشغل مثل هذا المنصب عبر تاريخ البلاد.

فكان مركز اهتمام الغرب الذي جعل منه مانشيتاً صحافياً بالبنط العريض كون "يوسف" مسلماً، ليصبح ذلك شغل الشارع الشاغل وليكون محور نقاش حلقات تلفزيونية مختلفة بين أخبار وبرامج حوارية، على الرغم من أن اسكتلندا تعد بلداً متعدد الأعراق ويضم عدداً من السياسيين المعروفين ممن لديهم معتقدات دينية، لكنه واجه أسئلة من وسائل الإعلام أكثر مما واجه أقرانه ممن لم يتسببوا بتخوفات من (الإرهاب أو بعض المسائل الجدلية الأخرى).

في الانتخابات الأخيرة كانت "كيت فوربس" منافسة "حمزة يوسف" هي عضو في الكنيسة الحرة في اسكتلندا ومواظبة على أداء الشعائر فيها، كذلك عُرِفَ رئيس الوزراء السابق "توني بلير" بأنه كاثوليكي ملتزم، لكن ذلك لم يكون محور اهتمام الإعلام في مقابلاتهم.

لم تتوخّ وسائل الإعلام العربية هي الأخرى عدم الوقوع في الفخ، فكانت الإشارة إلى ديانة "يوسف" في افتتاحية وعناوين الصحف والبرامج قبل الإشارة إلى أي شيء آخر، ليصبح حديث العالم من غير المهتمين بالسياسة بأن رئيس حكومة اسكتلندا الجديد مسلم من دون أي معلومات إضافية.

ربما يعد وصول "حمزة يوسف" إلى منصب رئيس وزراء اسكتلندا لحظة تاريخية بالنسبة للمملكة المتحدة، لكن الخطاب المنتشر أكد حقيقة تخالف ادعاءات العالم وبريطانيا بعدم احتكار المناصب لفئة معينة، بناء على مواصفات اللون والجنس والدين، ويشي بحقيقة وجود حالات قد يتفوق فيها منافس على آخر، بناء على معطيات من المفترض ألا تشكل أهمية في بلد ديمقراطي، يتمتع شعبه بالوعي السياسي والمجتمعي وتفصل فيه مؤسسات الدولة عن المؤسسات الدينية.

هاجمت الصحف الشهيرة مثل صن وديلي ميل وإكسبريس "حمزة يوسف" بشكل لاذع ووصفوه بأنه "عديم الجدوى" واستخدموا مفردات ذات طابع عرقي

لطالما كانت الخلفية الدينية هي النقطة التي يراهن عليها المتطرفون لإقصاء المختلفين عنهم، فديانة "إلهان عمر" كانت سبباً أساسياً لرفض وجودها في مجلس النواب الأميركي ومهاجمة الجمهوريين لها، وهو أمر حدث قبل انتقادها إسرائيل الأمر الذي عدّه النواب معاداة للسامية ونتج عنه إقالتها من لجنة العلاقات الخارجية وقبل ذلك من لجنة الشؤون الإفريقية، بجهود الجمهوريين الذين اعترضوا على وصولها إلى البرلمان وصرحوا بتوعدهم إزاحتها من مناصبها بسبب هويتها الدينية.

كذلك هاجمت الصحف الشهيرة مثل صن وديلي ميل وإكسبريس "حمزة يوسف" بشكل لاذع ووصفوه بأنه "عديم الجدوى" واستخدموا مفردات ذات طابع عرقي، ليستنتجوا أنه يفتقر إلى الحنكة الوظيفية وأساليب الإدارة الناجعة.

في نظرة سريعة إلى التحركات السياسية الأخيرة فقد انضم "يوسف" إلى رئيس الوزراء البريطاني "ريشي سوناك"، ذي الأصول الهندية، الذي تولى منصبه في أكتوبر الماضي، وعلى الجانب الآخر يوجد رئيس وزراء جمهورية أيرلندا "ليو فارادكار" وهو ابن طبيب هندي المولد، أما زعيم المعارضة الرئيسية في اسكتلندا "أنس سروار" فهو أيضاً ابن لمهاجرين باكستانيين، كما أن لوزيرة الداخلية البريطانية "سويلا برافرمان" جذوراً هندية، بينما ولد عمدة لندن "صادق خان" لعائلة مهاجرة باكستانية من الطبقة العاملة وهو أمر قوبل على الدوام من جمهور اليمين بعاصفة من التذمر والاستفزاز واستخدام خطاب كراهية.

إن جوهر الدول التي يحكمها القانون أنه لا يستطيع أن يحكمها شخص انطلاقاً من مبادئه الدينية، لأنه هو شخصياً محكوم بقانون وضعي شُرع تلبية لحاجات المجتمعات التي تختلف من بلاد إلى أخرى، ولكنها تصبح ضرورة حالة في حال وجود مجتمعات ودول متعددة العقائد كي تضمن استقلال وحرية المواطنين الفكرية والدينية، وعدم صبغة المجتمع بهوية الأكثرية الدينية، ليجد الأقليات أنفسهم منصاعين إلى شرائع لا تمثلهم أو تجعل منهم مواطنين أدنى مرتبة.