دوامات الجيوبوليتيك الروسي

2022.09.09 | 06:50 دمشق

دوغين
+A
حجم الخط
-A

من سوريا إلى أوكرانيا في العمق الأوروبي، سيرورة جيوبوليتيكة واضحة المعالم لتغيرات المشهد الدولي بحوافه الحادة وزواياه الهشة. المشهد الذي يعكس شدة وعمق الأزمات العالمية المالية والاقتصادية والسياسية واستحداث طرق الهيمنة والسيطرة، القابلة للتطور لأن تهدد السلم العالمي على سطح الكوكب.

الحواف الحادة العالمية اليوم لم تعد أيديولوجية ناعمة كما في صراع المادية والمثالية فلسفيا في القرن التاسع عشر، ولا سياسية تحالفية ضدية كما بين المشروعين الاشتراكي والرأسمالي في القرن العشرين. الحواف الحادة الدولية هي اشتداد حدة الصراع المصلحي للدول جيوبوليتيكيًا على مواقع الهيمنة المتقدمة عالميًا، وحدة التنازع على قمة الهرم العالمي.

وإن كانت ما تسمى بالنظرية الرابعة في السياسة لأكسندر دوغين هي الخلفية النظرية للجيوبوليتيك الروسي، إلا أنها ليست نظرية مكتملة الأبعاد الفلسفية والنظرية الفكرية، بقدر ما هي طريقة فعل وأدوات عمل عسكرية وسياسية. تستعيد فكرة التمحور العالمي مرة أخرى وفق خطوط التنافس على قضم الزوايا الهشة سياسيًا في العالم وقد دخلت قيد التطبيق والتنفيذ المباشر.

التمحور الجيوبوليتيكي يستعيد في الذاكرة المحاور التي بنتها ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية بتحالف البحار البعيدة مع الإمبراطورية اليابانية بغية توسيع المحيط الحيوي للهيمنة والسيطرة الدولية، تلك التي شكلت محور الحرب العالمية الثانية. واليوم تمحوره الحالي، ومركزه روسيا، أشد خطرًا على السلم العالمي، وذلك لامتلاك معظم دول الصراع العالمي السلاح النووي، الذي وضع قيد الجاهزية روسيا في بدء غزوتها لأوكرانيا. وروسيا هذه، وحسب تصريحات دوغين لن تخسر الحرب حتى لو استخدمت السلاح النووي وفني الكوكب بما فيها روسيا. روسيا التي ترشح نفسها في محيطها الأوراسي المزعوم، بأنها القادرة على مواجهة العولمة الأميركية، ومن خلفها الناتو، وأن تستعيد مكانتها العالمية كقطب ثان موازٍ بمقابل القطب الأميركي.

دوامات التحالفات الروسية الجيوبوليتيكية متعددة المحاور، ميزتها الهامة والمختلفة عن سابقتها الجيوبوليتيكية الألمانية أو الأيديولوجية الفكرية والسياسية، أنها:

أولًا لم تضع نفسها في مواجهة مباشرة عسكريًا مع الناتو كما فعل الألمان باجتياحهم دول الحلفاء الأوروبيين بداية الحرب العالمية الثانية، بل توجهت لقضم الزوايا الهشة عالميًا بدءًا من سوريا ولن تقف عند أوكرانيا.

وثانيًا أنها حافظت على ملفات التفاوض الاقتصادية والسياسية مفتوحة بذات الوقت، فهي تفاوض في أستانا وجنيف سورياً منذ خمسة أعوام، وفتحت بوابات التفاوض مع الأوكرانيين منذ لحظة بدء غزوها لها، أضف لأنها فتحت بوابات التفاوض الاقتصادي والسياسي على نقل الطاقة والغاز لأوروبا..

تميز الجيوبوليتيك الروسي، وهذا ليس غزلًا أو محبةً، بل قراءة لواقعية المشهد العالمي، أنه اختار مواقع غزواته العسكرية التي يعتقد أنها الأسهل لفرض القوة العسكرية المباشرة، وأيضًا تتجنب المواجهة المباشرة مع الناتو، مع التلويح بالزر النووي كسلاح ردع، وترك بوابات التفاوض السياسي والاقتصادي مفتوحة على وسعها بغية تحقيق الاعتراف بشرعية وجودها العالمي كقطب منفرد يحكم القوة المباشرة.

إدارة العالم سواء بالطريقة الأميركية المعولمة لنظام وحيد القطب، أو الصعود الروسبوتيني الجيوبوليتيكي بلغ حدته في قلب أوروبا اليوم

إدارة العالم سواء بالطريقة الأميركية المعولمة لنظام وحيد القطب، أو الصعود الروسبوتيني الجيوبوليتيكي بلغ حدته في قلب أوروبا اليوم. وتشكيل حوافه الحادة العالمية يحاول الطرفان تجنب صدامه المباشر، ما فتح المساحة لتفريغ حدتها في زوايا هشة دوليًا تمثل مناطق وخطوط تماس دولية لنفوذ كلا النموذجين. فالدخول الروسي في أوكرانيا يعتبر نتيجة متوقعة جيوبوليتيكيًا بعد سوريا. وسوريا عقدة وصل أوروبية آسيوية لاكتمال أوراسيا الجيوبوليتيكة، وموقعة هشة سياسيًا أظهرت أحداث سنواتها الأولى عدم وجود نية أميركية للتدخل فيها، وتركها للاستثمار العام الدولي والإقليمي. في حين التوجه لأوكرانيا وموقعها في قلب أوروبا وعلى بحري أزوف والأسود، يعمل على إقفال الدائرة الأوراسية أمام تمدد حلف الناتو. وأوكرانيا، في السياق الجيوبولتيكي الروسي، منطقة هشة دوليًا فهي ليست دولة عضوا في حلف الناتو، ولكنها في قلب أوروبا. وبالضرورة تسعى روسيا لفرض شروطها الدولية على المنظومة العالمية بوجه تمدد الناتو من جهة، وإمكانية التحكم في أوروبا بالطاقة، وهذه، أي أوروبا وخاصة ألمانيا وفرنسا، ترفض الانجرار للحرب رغم استنفارها العام، فهل ستتمدد الحرب لقلبها؟

الزوايا الهشة سياسيًا في المعادلة الدولية، تلك التي كان قد حددها دوغين بالدول التي يمكن فرض شروط القوة العسكرية مباشرة عليها عند غياب المنافس الجيوبوليتيكي. وهي القابلة لإمكانية التمدد العسكري بها كليًا أو جزئيًا وفرض شروط سياسية ودولية من خلفها، مع تفريغ حدة الاحتقان الحاد العالمي فيها وتجنب المواجهة المباشرة.

تاريخيًا، مثلت العراق والبلقان وأفغانستان، بعد العام 1991، زوايا هشة للأخذ بالقوة العسكرية لقوات حلف الناتو وبتحالف دولي واسع، وذلك في فترة انحسار المد السوفييتي وغياب المنافس الجيوبوليتيكي. واليوم تمثل كل من سوريا وأوكرانيا ذات النموذج القابل للأخذ بالقوة العسكرية روسيًا ولكن بفارق هام. ففيما يبدو أنه تراجع أميركي جيوبوليتيكي عن الاحتكاك المباشر من مناطق الشرق الأوسط، لكنه ليس انحسارا كليا، فمؤشرات الوجود الأميركي قائمة بقوة الحضور العسكري التمثيلي لها، أضف لاستقطاب كامل أوروبا في حلف الناتو في مواجهة التمدد الروسي، أي لا وجود لمعادلة غياب المنافس الجيوبوليتيكي التي يفترضها دوغين، بل وضعه، أي الناتو أمام سيناريوهات الواقع الجيوبوليتيكي المحدث، المسماة سياسة حافة الهاوية.

في حين تمثل أوكرانيا وفق الشروط الروسية المعلنة لوقف الحرب: حيادها العام ونزع تسليحها والاعتراف بضم شبه جزيرة القرم ومنطقتي دونتيسك ولوهانسك، شروط تعجيزية وخطرة على أوروبا والناتو. لكنها لليوم، ووفق مؤشرات دولية عدة تنحو لأن تكون منطقة هشة سياسيًا في المنظار الجيوبوليتيكي، إذ ستتفادى أوروبا تمدد الحرب لداخلها، كما ستسعى أميركا لاستنفاد الروس عسكريًا فيها. وكلاهما، الأميركان والأوروبيون، باشروا بفرض العقوبات الشديدة المالية والاقتصادية المتتالية على روسيا، وفرض العزلة الدولية على مسؤوليها وعليها عامة، مع تعزيز الدفاعات الأوكرانية عسكريًا. ولكن في حال انتصرت روسيا فهذا سيهدد الأمن الأوروبي واستقراره السياسي من خلال فرض شروط جديدة على أوروبا مع قابلية التمدد العسكري لجوار أوكرانيا.

وفي حال انهزمت روسيا بريًا فالتهديد بالسلاح النووي قائم ومحتمل ومحاولات اللعب حول محطة زابوريجيا النووية الأخيرة مؤشر واضح. والسيناريو الجيوبوليتيكي المرجح هو ذاته السوري مع رفع مستويات خطره، أي امتداد عمر العمليات العسكرية وعدم حسم ملفها سياسيًا، ليصبح تقسيم أوكرانيا احتمالا مرجحا ولكنه محفوف بالمخاطر.

أوروبا ومن خلفها أميركا، حاولوا ترك سوريا وملفاتها فريسة للروسبوتينة كإحدى طرق ترويض نزعتها القيصرية في الهيمنة العالمية، لكن العالم اليوم وخاصة أوروبا وأمام مجريات الحدث الأوكراني، يقف في مواجهة الأسئلة الصعبة التي من غير الممكن الإجابة عليها بإدارة الظهر والاكتفاء بإدارة ملفاتها عن بعد كما الحالة السورية. بينما دوامات الجيوبوليتيك الروسية هذه تهدد السلم العالمي والحياة كلها على سطح المعمورة، والمواقف النهائية للقوى الدولية الكبرى كأميركا والصين ما زالت قيد التحليل والتفسير. والسؤال العالمي الفاضح يتردد: ما هي الخطوة القادمة لوقف دوامات الجيوبوليتيك الروسي؟ وكيف لأوروبا تجنب تحولها لساحة حرب واسعة تعود بالذاكرة للحرب العالمية الثانية، ومن خلفها لعنات الجيوبوليتيك الدولي التي بدأت مفاعيلها، والعالم اليوم يخشى تكرارها؟ أسئلة تحتاج لإجابات متعددة، وقد تكون إحداها مفاجئة كما عودنا الجيوبوليتيك الروسي.