درس روسي في ذكاء الدببة

2022.03.26 | 06:39 دمشق

61-110045-russian-ukrainian-war-in-numbers_700x400.jpg
+A
حجم الخط
-A

الدبّ أشهر الحيوانات وأثبتها في الثلوج الروسية الباردة القارسة، اتُخذ رمزا لروسيا في الرسوم المتحركة والكارتون والمقالات والقصص والمسرحيات منذ القرن السادس عشر، واستخدمه الأوروبيون، وخصوصًا البريطانيين في رسوماتهم الكاريكاتورية، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة، وكان يرمز لروسيا بالدب للدلالة على كبرها ووحشيتها وقوتها العظمى. رضي به الروس رمزًا وطنيًّا، وهو شعار حزب روسيا الموحدة اليوم.

الدب يغرق في سبات شتوي مدة تبلغ نصف السنة، ويوصف بقصر النظر، وسندرك أنَّ بعضًا من خصائصه قد غلبت على الروس، فالمجاورة تجرّ وتجور، والجار والمجرور متلازمان في الإعراب، يمكن أن نذكر أقوال ابن خلدون في تأثير الطعام على طبائع الشعوب، وقد غلب طبع الإبل بغضبه وحقده وغيرته وصبره على شمائل العرب، الهندوس يأكلون النبات.

كان سبب قصف الجيش الأوكراني السفينة الروسية العملاقة أورسك، وإشعال النيران الأوكرانية بها عجرفة روسية إعلامية، فقد بثت القنوات الروسية خبر رسوّها في بحر أزوف، فدلّ الجيش الأوكراني على مكانها!

ذكّرنا "ذكاء" الروس ومصير أورسك بغرق شقيقتها الكبرى الغواصة كورسك، درّة الصناعة البحرية الروسية، قبل نحو عقدين في بحر الشمال، وكان الأمر يشبه أن تغرق سمكة في الماء، وقعت الواقعة في 12 آب/أغسطس 2000، بسبب انفجار طوربيد أدّى إلى غرقها، فحبس الروس أنفاسهم بانتظار معرفة مصير بحارتها المئة والثمانية عشر رجلًا الذين علقوا على عمق 108 أمتار في بحر بارينتس إلى أن اهتدى الروس إليها بعد تسعة أيام، ووصفت بأنها أسوأ كارثة لحقت بالبحرية الروسية بعد العهد السوفييتي، أما تشرنوبل فمأساة أخرى. وكانت الغواصة العملاقة "طالعة من بيت أبوها" في تدريبات واسعة لأسطول بحر الشمال، على الحدود بين روسيا والنروج.

أعلن الروس أنّ مشكلات تقنية أدّت إلى غرقها، وهي تشبه عبارة الإعلام السوري في وصف القصف الإسرائيلي بالماس الكهربائي، وكان بعد يومين من وقوع الحادث، وتحدثت البحرية عن اصطدام الغواصة بسفينة أجنبية "مندسّة"

ومن طرائف هذه المأساة الروسية أن نداء استغاثة وحيد أطلقه أحد بحارتها ليس باللاسلكي وإنما بالضرب على "طنجرة" هيكلها، فأرسل الروس غواصة نجدة اصطدمت بهيكل "كورسك"، فصدق فيهم المثل: جاؤوا يكحلوها فعمّوها، فرضيت من الغنيمة بالإياب. أعلن الروس أنّ مشكلات تقنية أدّت إلى غرقها، وهي تشبه عبارة الإعلام السوري في وصف القصف الإسرائيلي بالماس الكهربائي، وكان بعد يومين من وقوع الحادث، وتحدثت البحرية عن اصطدام الغواصة بسفينة أجنبية "مندسّة".

طمأن إعلام الروس العالم أنّ مفاعل الغواصة آمن، وأنّ الصواريخ الـ 24 الموجودة على متن الغواصة لا تحمل رؤوسًا نووية. وأنّ أفراد الطاقم ينعمون برؤوس البطيخ وبكميات من الأكسجين تكفي حتى 18 آب/أغسطس، وسينجدونهم قريبا، غطرسة الروس جعلتهم يرفضون عروض المساعدة من البريطانيين والنروجيين ومن الأميركيين لإنقاذ بحارتهم من الموت خنقا. وواصلوا عمليات الإنقاذ باستخدام وسائل قديمة أو غير ملائمة، مسجلين الفشل تلو الآخر.

كان الرئيس الروسي المفدّى فلاديمير بوتين آنئذ يقضي عطلته في سوشي على البحر الأسود، وانتظر حتى 16 آب/أغسطس ليدلي بأول تصريح. فقال: إنّ الوضع "حرج" لكن روسيا "تملك كل وسائل الإنقاذ الضرورية".

تغير الوضع في اليوم نفسه بعد اتصال هاتفي مع الرئيس الأميركي بيل كلينتون، فأمر رجل الاستخبارات السابق جيشه بقبول "المساعدة أيًّا كان مصدرها"، وواصل عطلته في المنتجع. ودفع صمته وسائل الإعلام إلى مهاجمته، فكتبت صحيفة إيزفستيا" نادبةً: إنه كان من الأولى أن تصبح الكارثة هاجس الدولة برمتها، بدءًا من الرئيس". واتهمت وسائل الإعلام العسكريين بالكذب، وتساءلت عن قيمة حياة الإنسان في روسيا ما بعد الشيوعية. أما عائلات البحارة، فعاشت "جحيمًا" من القلق خوفا على مصائر آبائهم وأبنائهم. وقالت زوجة بحار علق في الغواصة: إن "كل نشرة أخبار كانت مثل حكم بالموت". في 18 آب/أغسطس، أعلن بوتين أن فرص إنقاذ طاقم الغواصة "ضئيلة جدًا لكنها ما زالت قائمة" وقرر العودة إلى موسكو. في 21 آب/أغسطس، نجح الغطاسون النروجيون بعد ثلاثين ساعة من الجهود، في فتح بوابة الغواصة، فوجدوا أن المياه تملأ الغواصة من داخلها، وأن البحارة قد قضوا نحبهم. وعندما توجه بوتين إلى فيدياييفو، المرفأ الصغير الذي ترسو فيه كورسك عادة، وجد زوجات البحارة تندب وتلومه بشدة، حتى إنهن رفضن المشاركة في يوم الحداد الوطني.

قال بوتين إنه "يشعر بالذنب حيال هذه الفاجعة". في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2000، عثر على رسالة مكتوبة بخط اليد في جيب أحد ضباط الغواصة، رسالة من تحت الماء"، أثبتت أن 23 رجلًا على الأقل نجوا من الانفجار الأول، ولجؤوا إلى حجرة آمنة. وكتب الضابط أندري بوريسوف قبل موته "عزيزتي ناتاشا وابني ساشا، إذا تسلمت هذه الرسالة، فهذا يعني أنني متّ. أحبكما كثيرًا". لا يخفي بوتين إعجابه بستالين الذي بدأ الحرب العالمية بالهجوم على فنلندا، في حرب الشتاء، وتسمى أيضًا بحرب السجق، فقد شمّ الجنود الروس الجوعى رائحة الشواء في مطابخ الفنلنديين، فهجموا عليها، فسقط الآلاف منهم في الأسر.

بوتين يشبه ستالين في عدم اكتراثه بالخسائر التي يخفيها وهي كبيرة، بينهم قادة كبار، تدل عليهم آلاتهم ومركباتهم المحطمة والمحترقة في الطين والثلج

تشبه أسباب الهجوم على فنلندا الهجوم على أوكرانيا، ولم تكن لفنلندا كل هذه المؤازرة الغربية بالسلاح والعتاد والعقوبات على روسيا، وكانت فنلندا قد صمدت وقتلت نحو نصف مليون روسي، اعترفت روسيا بـ 350 جنديا منهم فقط، أما الضحايا الآخرون الذين سقطوا كالذباب، فدفنوا في البحار والطين مع خيولهم.

بوتين يشبه ستالين في عدم اكتراثه بالخسائر التي يخفيها وهي كبيرة، بينهم قادة كبار، تدل عليهم آلاتهم ومركباتهم المحطمة والمحترقة في الطين والثلج، من غير رسالة إلى ناتاشا أو ساشا. فقد كان غرقى الغواصة محظوظين بيوم وطني ودفن كريم لن يحظى به الجنود الروس في أوكرانيا.

 يحيط الأوكران بسبعة آلاف جندي محاصرين في كييف، لكن الدبّ الروسي الأعمى، يحتاج من ينقذه من ورطته التي سعدت بها أميركا كثيرًا، وتنوي صيده واتخاذه "نمرة" في سيرك التاريخ.