داعش وسياسة "جس النبض" - 2013

2020.09.08 | 00:00 دمشق

26a9e6ccdeaa06cccd6e29d7.jpg
+A
حجم الخط
-A

خلال الربع الأخير من عام 2013 تزايدت تحركات تنظيم داعش التوسعية في الشمال السوري ضمن المناطق المحررة، فكان التنظيم لا يتوانى عن بسط نفوذه على أي مؤسسة أو أصول عامة لا تجد من يدافع عنها، مستهدفاً بشكل أساسي كل ما يمكن أن يشكل له مورداً مالياً كالمعامل الصناعية وصوامع الحبوب وغيرها، فضلاً عن تعمده وضع يده على أي مبنى عام (بمعنى ملكيته للدولة قبل الثورة)، ليكون مقراً له، مركزاً بشكل أساسي على المباني ذوات المساحة والحجم الكبيرين، فيرفع فوقه رايته ويضع اسمه على مدخله بشكل مقروء وكبير، حتى وإن لم يمتلك عدداً كافياً من العناصر ليشغلوه، فالغاية بداية تكون ترويجية بالدرجة الأولى وأمنية بدرجة أقل، ثم تتحول إلى توسعية حسب قدرة التنظيم وأهمية الحي \ القرية.

وقد اعتمد التنظيم سياسة "جس النبض" هذه في كل تحرك من تحركاته التوسعية، حيث يعمد إلى إرسال مجموعة للاستقرار في مبنى ما، فإذا لم يعترض أحد التشكيلات العسكرية على ذلك بشكل صارم، يبدأ التوسع في محيط المقر، فيضع حاجزاً عسكرياً في الشارع المؤدي إليه، ثم يدفع عناصره ليأخذوا دور الشرطة في الحي الذي يوجد فيه، ويجعل في مقره سجناً صغيراً للمعتقلين... وهكذا حتى يصبح الحي تحت حكمه، دون أن ينسى الجهد الدعوي في هذا الحي، الذي كان يبدأ من سيطرته على الخطابة في أحد مساجده، ويتدرج ضمن شوارعه وأسواقه على شكل نقاط دعوية يتحدث فيها مبشروه بكلام عام يحفظونه ويرددونه عن "النظام النصيري والعالم الكافر المتآمر والعلمانية والديمقراطية ودولة الإسلام العادلة.. والمجموعات المسيئة التي تحمل السلاح ممتهنة اللصوصية والتضييق على الناس" وهذه النقطة الأخيرة كانت تجد آذاناً مصغية عند شريحة واسعة من المدنيين، الذين ضاقوا ذرعاً ببعض المجموعات المنتسبة إلى فصائل الثورة، وتسلطها على قوت الناس وأملاكهم.

وهو في كل ذلك يضع عيناً على السيطرة على الحي \ القرية، وعيناً أخرى على المجموعات العسكرية الموجودة فيه وتحركها لردعه، فإذا بادرت إحدى هذه المجموعات لذلك يتراجع إلى آخر مكسب تحصل عليه دون اعتراض، منتقلاً إلى العمل الأمني ضد هذه المجموعة والذي يمكن أن يأخذ أشكالاً متعددة، تبدأ من اختراقها بالمبايعين ضمن نظام "البيعة السرية"، مروراً بمهادنتها والتقرب منها مؤقتاً في حال ارتأى أن مواجهة مباشرة مع المجموعة ستكون نتائجها سلبية تؤلب عليه المدنيين أو تستنزف طاقته، وصولاً إلى معركة مفتوحة لاجتثاثها في حال وجد التنظيم من المجموعات الأخرى في الحي \ القرية رغبة بإنهاء هذه المجموعة، مستثمراً بشكل جيد الخلافات بين المجموعات العسكرية، بما يضمن عزل المجموعة المستهدفة لتكون وحيدة في مواجهته، مع تفعيل جهود جهاز الإشاعة لديه قبل المواجهة للحديث عن تجاوزات هذه المجموعة وفسادها، فكانت "عاصفة الشمال" ضمن بلدة اعزاز على الحدود السورية التركية إحدى ضحايا هذه السياسة في سبتمبر \ أيلول عام 2013، وكذلك كانت "غرباء الشام" في مدينة حلب في نوفمبر \ تشرين الثاني من العام نفسه.

اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب "تكتيكات داعش لحكم حلب - 2013

لم يقصر التنظيم سياسته هذه على الفصائل الصغيرة، فقد كان يشمل بها حتى التشكيلات العسكرية الكبرى في الشمال كحركة أحرار الشام، إلا أنه لم يكن يتعامل معها كجسد واحد كبير، بل كان يعمد إلى التفرد بكتائبها المكونة لها دون أن يبدو أنه يبالي بحجم الحركة وامتدادها الذي يبلغ أضعاف حجم التنظيم، وقد كان محقاً في لا مبالاته تلك، فالحركة لم تكن مكوناتها ومجموعاتها على سوية واحدة سواء فكرية أو تنظيمية، وبدا واضحاً منذ أول تحرش للتنظيم بها أن قيادتها عاجزة عن ردع التنظيم عسكرياً، أو حتى أخذ موقف حاسم تجاهه! ليس لنقص في القوة، وإنما لحالة "الاختراق الفكري" -إن صح التعبير- من قبل التنظيم لجنود الحركة، والذين كان معظمهم يرى في التنظيم "حالة الجهاد النقي" دون ضرورات "السياسة الشرعية" التي تمارسها الحركة، ومرد ذلك أن الحركة في معسكراتها الإعدادية كانت تعتمد المنهج والأصول الفكرية نفسها التي بنى عليها التنظيم وجوده، مع فرق أساسي هو أن التنظيم كان يعلّم جنوده أن "الأحرار" -كغيرهم من التشكيلات- مرتدون، في الوقت الذي كانت فيه "أحرار الشام" تعلم جنودها أن هؤلاء في "تنظيم الدولة" إخوة في الجهاد والمنهج.

وهو ما سمح للتنظيم -ضمن سياسة جس النبض- بتوسعة استهدافه للحركة والذي بلغ حد سيطرته على عدد من الأصول التي كانت الحركة تضع يدها عليها، بل وقتل قياديين ضمن الحركة كان أبرزهم "أبو عبيدة البنشي" المسؤول الإغاثي فيها في سبتمبر \ أيلول عام 2013، لتكتفي قيادة الحركة بالمحاكم التي كان ممثلو التنظيم يحضرونها "رفع عتب" وبالبيانات والتغريدات، دون أي تحرك حقيقي على الأرض يلجم التنظيم عن التمادي.

 

صورة مرفقة1 - أبو عبيدة البنشي.jpg


 

لكن هذا لم يكن يعني أن التنظيم كان يتمكن دائماً من التحرك بأريحية، ففي بداية نوفمبر \ تشرين الثاني عام 2013، وعند محاولة التنظيم "تطفيش" عناصر يتبعون "كتائب شهداء بدر" من حاجز أقاموه على مدخل الأحياء المحررة في حلب قرب منشأة "الكاستيلو"، اشتبك معهم العناصر لكنهم تراجعوا في النهاية أمام المؤازرات التي استقدمها التنظيم، والذي سيطر على الحاجز الأهم بالنسبة لمدينة حلب، لتقوم "كتائب شهداء بدر" بضرب حاجز الإنذارات التابع للتنظيم وقتل عدد من جنوده، وهو ما دفع التنظيم لحشد أعداده في المدينة في محاولة لاجتثاث "كتائب شهداء بدر" والسيطرة على حي السكن الشبابي شمالي مدينة حلب الذي تتمركز فيه، إلا أن "شهداء بدر" تمكنوا من البقاء متماسكين أمام هجوم التنظيم رغم وجودهم في حي متطرف عن أي من التشكيلات الثورية في المدينة، والتي لم يتحرك أي منها لنصرتهم، لذلك عمد قائد الكتائب "خالد حياني" إلى عقد اتفاق مع "وحدات حماية الشعب الكردية" YPG المتمركزة في حي الشيخ مقصود المجاور له -والتي لم يكن قد مضى وقت طويل على انتهاء مواجهة دامية بينه وبينها- لتؤازره ضد التنظيم، وهو ما لم تتردد به الوحدات لعلمها أنها ستكون هدف التنظيم التالي، فكان لقناصي الوحدات مع "مدافع جهنم" التي اشتهر بها "شهداء بدر" الأثر الأكبر في صمودهم، حتى بعد استقدام التنظيم لمؤازرات قدرت بالمئات عجزت جميعها عن التقدم داخل الحي.

كما لم ينجح التنظيم في التمدد ضمن الأحياء الغربية من القسم المحرر في المدينة، بسبب جهود "تجمع فاستقم كما أمرت"، وحرصه الشديد على أن لا يدخل التنظيم إلى منطقته، في مواجهة من نوع مختلف كانت بالدرجة الأولى أمنية.

اقرأ أيضاً مقال سابق للكاتب "حرب حلب الباردة بين الثوار وداعش - 2013

لم يتردد تنظيم داعش ويتوقف عن التوسع في كل منطقة لم يجد فيها من يردعه، لذلك ومع انتهاء العام 2013 كان التنظيم وخلال وقت قياسي -8 أشهر- قد تمكن من بسط نفوذه على مساحات واسعة في الشمال السوري وداخل مدينة حلب، وهو ما سيسهل لاحقاً على الفصائل الثورية طرده من الشمال كله.

لكن تلك قصة أخرى..