خلفيات وأهداف تجريم التعذيب

2022.04.04 | 06:12 دمشق

2020-04-02-12.52.46.jpg
+A
حجم الخط
-A

تماماً كما تبجّح وفد منظومة الاستبداد الأسدية لـ "اللجنة الدستورية" بـ "رموز الدولة" كبند دستوري، بعد أن كانت تلك المنظومة قد ابتذلت تلك الرموز؛ ها هي المنظومة ذاتها تطرح مؤخراً قوانين "تعاقب" على إضعاف معنويات الشعب أو التعذيب أو السرقة. تلك الإبداعات توحي وكأن الحديث يدور عن مدينة فاضلة حصينة رزينة رشيدة، تغمرها الإنسانية والحقوق والسيادة.

لن أدخل في المناقشات التقنية والقانونية لتلك "التشريعات" القائمة والمستجدة، وأكتفي بالتركيز على خلفيات وأهداف هذه الصحوة المفاجئة لمنظومة الاستبداد تجاهها؛ حيث حدّدت المنظومة رزمة من العقوبات على من يقوم بدعوات ترمي إلى المساس بالهوية الوطنية أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية، أو نقل أنباءً كاذبة من شأنها بث اليأس في المجتمع، أو المَسّ بمكانة أو هيبة الدولة السورية؛ أو مَن يدعو إلى اقتطاع جزء من الأرض السورية أو التنازل عنها، أو مَن يسرق السيارات والدراجات.

ليس خفياً على أحد أن منظومة الاستبداد تمارس كل ما تتظاهر بقوننته وتحدد عقوبات له؛ وهنا يسأل السوريون بحرقة عن أنواع من التعذيب قلّما عرفها العالم؛

هل من قوانين تردع وتعاقب ابتزاز الناس، وتعذيب المعتقلين حتى الموت، واغتصاب السوريات في المعتقلات، وبث الفتنة في المجتمع، واستدعاء الاحتلال، وبيع الأرض للعدو مقابل البقاء في السلطة

فهل هناك مثلاً عقاب على منسوب الجَلْد والرعب والعذاب النفسي والمعنوي والاجتماعي والاقتصادي لعدم الإفصاح عن قوائم المعتقلين لدى النظام، وعدم معرفة ذوي المعتقلين أو المغيبين قسريا أي شيء عنهم؟!  لا يخفى على سوري أن كل مَن اعتُقل أو سيُعتقل من قبل منظومة الاستبداد يتم عادة تعذيبه بوسائل لا تخطر على بال، ولا يفكر بها شيطان؛ تبدأ بالتدمير النفسي والمعنوي بالشتائم والإهانات والتهديدات بكل ما يهم المعتقل وصولاً إلى تدميره عقلياً ونفسياً وجسدياً. وما آلاف الصور التي نقلها "قيصر" إلا دليل على ذلك.

من بين أسئلة السوريين المُحِقّة في هذا الصدد: "لماذا لا يصدر قانون حول القتل، والتدمير، والتهجير، والاغتصاب، وبيع الوطن للاحتلال؟". وهل من قوانين تردع وتعاقب ابتزاز الناس، وتعذيب المعتقلين حتى الموت، واغتصاب السوريات في المعتقلات، وبث الفتنة في المجتمع، واستدعاء الاحتلال، وبيع الأرض للعدو مقابل البقاء في السلطة، وممارسة الطائفية، وسرقة أموال وموارد البلاد لنصف قرن، (وليس فقط سرقة الدراجات والسيارات)؟! هناك حقيقة مئات الأسئلة من الطبيعة ذاتها في عقول السوريين وأنفسهم.

وإذا ما تم استعراض نماذج من المواد المتضَمَّنة في هذه القوانين، فنجد أن بعضها مثير للسخرية المريرة بوقاحتها وسطحيتها؛ فالمادة الثالثة من القانون الجديد تقول بإنه "لا يعتَد بأي اعتراف أو معلومات يثبت أنه تم الحصول عليها نتيجة التعذيب…"؛ في وقت لا يتم الحصول على أي معلومات، وتحديداً التي يريد النظام إلصاقها بالمعتقل، إلا بالتعذيب؟! ألم تجلب دول أجنبية معتقلين أجانب لديها ليتم استجوابهم في معتقلات فروع مخابرات النظام، لعلْمِ تلك الدول بنهج النظام في تعذيب المعتقلين؟!

من جانب آخر، تقول إحدى فقرات المادة الثانية في قانون العقوبات الجديد "تكون العقوبة الإعدام إذا نجم عن التعذيب موت إنسان أو تم الاعتداء عليه بالاغتصاب أو الفحشاء في أثناء التعذيب أو لغايته". والسؤال ها هنا: وهل كانت عشرات آلاف الصور التي نقلها "قيصر" إلا لمَن قضوا تحت التعذيب في معتقلات هذا النظام؟! أليس أول ما تتعرض له النساء السوريات في المعتقلات الاغتصاب؟!

لم تكن غاية هذه القوانين معاقبة من يمارس التعذيب، فالأمر واضح؛ وقوانين ومراسيم "النظام" التي تحصّن مرتكبي جرائم التعذيب من جانبه لا تزال قائمة. صور قيصر لم تأتِ من القمر؛ وشهادات مَن مورس عليهم التعذيب في معتقلاته لم تذهب أدراج الرياح؛ وشهادات معتقلين أجانب تم جلبهم الى معتقلات "سوريا الأسد" للحصول على معلومات واعترافات لا يمكن إغفالها.

رغم انفصام قوانين عقوبات منظومة الاستبداد الأخيرة عن الواقع، إلا أنها تحمل رسالة للسوريين وللعالم؛ وتأتي في طور إعادة التأهيل؛ ولكن لسوء طالع منظومة الاستبداد، هناك ما يقارب مليوني وثيقة تم تثبيتها على إجرام منظومتها. تهدف رسالة منظومة الاستبداد في قوانينها الوقحة إلى إخراس مَن تسوّل له نفسه في الداخل السوري أن يستذكر أو يرفع أي شكوى بأنه أو ذويه أو من يعرف قد تعرَّض للتعذيب. وهي تهديد صريح للشبيحة وللفروع الأمنية بأن النظام هو حاميهم، وأي كلمة منهم سوف تفتح ملفاتهم. وهي الأداة الأنسب للتخلص من بعض مَن قاموا بعمليات التعذيب، وتحميلهم أوساخ ما اقترفت أيدي المنظومة ككل.

السوريون لن ينسوا ولن يسامحوا؛ ومنظومة الاستبداد بخطواتها هذه تعتقد بأنها تضرب ضربة استباقية لأي دعوة قضائية تسوقها للعدالة؛ فجرائم الحرب لا تسقط بالتقادم

وللخارج، يتوهّم "النظام" بأن هكذا قوانين ستكون جزءاً من مساعيه في تجميل صورته، والتبجح بالقول إن سوريا لا يوجد فيها تعذيب؛ وإذا ما وقع، فهو جريمة. ويبقى الهدف الأهم من هذا الهراء إغلاق أي فرصة لمحاكم خارجية ذات ولاية دولية يمكن للسوريين حول العالم أن يلجؤوا أو يحتكموا إليها؛ حيث سيجدون الآن بأنهم إذا فكروا باللجوء لتلك المحاكم، ستقول لهم بأن التعذيب قد بات مُجَرّْماً بالقانون السوري، وعليهم الرجوع إليه لتقديم شكواهم.

رُعب منظومة الاستبداد وإحساسها بأن العدالة بالانتظار، ولا بد قادمة طال الزمان أم قصر، واضحة في قوانينها الأخيرة؛ فالسوريون لن ينسوا ولن يسامحوا؛ ومنظومة الاستبداد بخطواتها هذه تعتقد بأنها تضرب ضربة استباقية لأي دعوة قضائية تسوقها للعدالة؛ فجرائم الحرب لا تسقط بالتقادم؛ وما قامت به ليس إلا إرهاب دولة ينطبق عليه المفعول الرجعي للقوانين. وهي تعتقد أن إبقاءها على المراسيم المتتالية بإخلاء مسؤولية جهاتها الأمنية عن أي فعل إجرامي كيفما كان ودون مساءلة أمر غير مكشوف. ومن هنا فإن قوانينها الجديدة ليست إلا حبراً على ورق، ولا قيمة قانونية لها.