حين انصفق باب الزنزانة الحديدي ورائي، وراح السجان يطق بمفتاحه القفل: طق، طق، طق، أحسست أن كل شيء قد انتهى. تأملت الغرفة الضيقة المقيتة. كانت صندوقا مكعبا، طوله وعرضه وارتفاعه مائة وتسعون سنتيمترا. ولم يكن له نافذة للتهوية. كان الهواء يأتي من خلال جهاز يسحب الهواء الفاسد ويدخل هواء أقل فسادا. على امتداد نصف الزنزانة تمدد عازل وبضع بطانيات. وفي الزاوية المقابلة للفراش كان ثمة قصعتان فارغتان. ماذا يفعل المرء إذ ذاك؟ حين يشعر أن العالم كله قد صار وراءه: أمَّه وامرأته وأصدقاءه ومقهى الروضة وسناك أمية وحديقة المنشية والتكية السليمانية ودمشق القديمة والنوفرة والرفاق والصبايا الحسان وحلم تغيير العالم وإحقاق الحق والحزب الثوري ودكتاتورية البروليتاريا والأمسيات الأدبية والمعارض الفنية والعروض المسرحية والموسيقى الكلاسيكية. ماذا يفعل المرء وقتذاك؟ يصلّي لإله هجره منذ زمن سحيق؟ يستحضر امرأة ويضاجعها؟ أم يفعل الاثنتين معا؟
سيأتي التواصل الأول مع امرأة حقيقية بعد عشر سنين. كانت الملامسة الأولى أشبه بالملامسة الأولى لمراهق في الرابعة عشرة، وقد اختطف قبلة سريعة من ثغر جارته، عند منحنى السلم أو وراء درفة الباب. أخذتني س (وهو ليس أول حرف من اسمها) من يدي وقادتني إلى عالم من النور والكشف والانعتاق. هو الانعتاق الحقيقي من كل أسر وحبس وفقدان أمل. وهو الانعتاق الحقيقي من ثقافة الذكور التي هيمنت على حياتي عشر سنوات كاملات. كان لقاؤنا الأول في البلازا- الطابق العاشر: بار حميمي بأرائك مريحة وطاولات منخفضة مستديرة. كل ما في الخارج دائري ملتف منحن وحنون. في الداخل كل الأشياء حادة متقاطعة بزوايا منكسرة ولئيمة. شربنا بيرة ورحت أحدثها عن عالم الداخل. كانت المرة الأولى التي تحدثت فيها عن ذلك العالم ولكن الغريب أنها ستكون المرة الأخيرة أيضا. لم يأت ذكر السجن على لساني طيلة الأيام والأشهر والسنوات التي تلت.
مع س أعدت اكتشاف الجسد الأنثوي الملتف والغض والأملس. اليدان الأنيقتان، الأصابع النحيلة التي تتحرك كنوتات موسيقية.
ومع س أعدت اكتشاف الجسد الأنثوي الملتف والغض والأملس. اليدان الأنيقتان، الأصابع النحيلة التي تتحرك كنوتات موسيقية. تلك الانتفاخة اللطيفة عند البطن، ثم الساقان الملساوان الملتفان بقوة وحنان والمؤديتان إلى قدمين سمراوين فاتنتين. أعادت "س" تأهيلي. علمتني أبجدية المرأة من جديد. علمتني استخدام اليدين لغير العراك، واستخدام الشفتين لغير النقاش والصراخ، واستخدام القدمين لغير الجلد. علمتني أن الحياة ليست سجالا عقائديا ومناورات سياسية. علمتني أن ما من شيء يمكن أن يبرر السجن: أشد اختراعات الإنسان همجية ولا إنسانية. وعلمتني أن الحياة أجمل من أن يضحى بها من أجل فكرة وأن الحرية أجمل ما في الحياة. ولن تطيل س بقاءها معي، فما إن استطعت السير على قدمي حتى ضحكت ضحكتها الخفيفة التي كانت تريد أن تقول: "ليس في الحياة ما يستحق الحزن"، ولوّحت لي بيدها، وابتعدت، جميلة، مليئة بالحياة والحنان والصبر، واسعة كحقل حنطة، كريمة كشجرة زيتون، ونائية كجزيرة رأيتها ذات مرّة في حلم جميل.
الهواء ثقيل. يلج رئتي بصعوبة. أبذل جهدا أكبر لأساعده على النزول إلى أسفل رئتي. في الخارج هدوء قاتل. الليل في ساعاته الأخيرة، والسجانون أيضا يريدون أن يناموا ويحلموا بنسائهم أو بنساء جيرانهم. ما الذي تفعله أمي الآن؟ هي على الأرجح نائمة، بينما أبي قد استفاق لتوّه، ليتوضّأ ويذهب ليصّلي الفجر في الجامع القريب. هل استشعر ضيقا حين اعتقلت، كما استشعر جدّي الأكبر ضيقا قبل قرون. حكى لي أبي هذه الحكاية حين ألمّ بي ذات يوم مرض أقعدني في البيت ومنعني من الذهاب إلى المدرسة. في ليلة أفاق جدّي الأكبر ضيّق النفس ملهوفا، وأيقظ جدّتي الكبرى:
"يا فاطمة!" ناداها. "اكسري الجرّة."
أفاقت فاطمة مرعوبة، ولم تفهم.
"ماذا تريد؟"
"اكسري الجرّة!"
لم تفهم فاطمة، وحاولت أن تحتجّ. لم تكسر الجرّة وليس لديهما سواها؟ ولكن جدّي أصر. فقامت إلى الجرّة وكسرتها، واندلق الماء منها على الأرض كجدول. ودمدم جدّي "يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم." ستفهم فاطمة لاحقا. على بعد مئات الأميال، كان ابنهما المسافر يقيم في نزل، اندلع فيه حريق، اقترب من الغرفة التي يقيم فيها، ولكن ماء الجرّة جرى حتى وصل النار فأطفأها.
"أبي، هل يمكن للماء أن يسيل من مدينة إلى مدينة؟"
نظر أبي إلي بعينيه الجميلتين، ومدّ يده يخلخل بها خصلات شعري، وقال:
"ليس الماء، ولكنه الحب."
بدأت في الخارج ضجّة خفيفة سرعان ما ازدادت. أشياء معدنية يقرقع بعضها مع بعض. أصوات تصيح آمرة، وخطوات مستعجلة، وأشياء ثقيلة توضع على الأرض بعنف. ثمّ أبواب تفتح بعنف، يدخل المفتاح في القفل. يطقطق بضع مرّات. يفتح الباب، هرولة خطوات، ثمّ يغلق من جديد، ويطقطق المفتاح.
اقتربت الخطوات والأصوات الآمرة والقرقعة من زنزانتي. دخل القفل في المفتاح. طق.. طق.. طق. فتح الباب وأطل السجان الذي أدخلني قبل ساعات.
"فوِّت أكلك." قال آمرا. على الأرض كان ثمّة قصعتان صغيرتان. واحدة فيها شاي علته طبقة من دهن، وفي الثانية قليل من اللبنة، وعلى الأرض رغيفان عسكريان منفوخان، سمراوان فوقهما دقيق أبيض. أدخلت كلّ شيء بسرعة. كان مرّ يوم كامل لم أذق فيه لقمة واحدة. ولكنني لم أكن جائعا. قربت قصعة الشاي من فمي ورشفت رشفة صغيرة. كان ماسخا وقليل السكر. ولكن الخبز كان شهيا. طازجا. مغريا. كسرت الرغيف بيدي وبدأت ألوك منه لقيمات صغيرة.
لم أكد آكل بضع لقيمات حتى فتح الباب من جديد. إنه دور الحمّام.
يمكنك في فرع التحقيق العسكري أن تذهب إلى الحمام ثلاث مرات في اليوم. يفتح السجان الباب ويتنحى قليلا مفسحا لك في المجال لتهرع إلى المرحاض فتفرغ مثانتك الممتلئة حتى الانفجار أو أمعاءك المتصارعة. وتتوقف الأمور على الحظ. حبيب عاقل يبدأ منذ لحظة فتح الباب بالعد من واحد إلى عشرة. مع كل رقم يهوي بسوطه (الكابل الكهربائي الرباعي) على الجدار الملاصق لك، وعليك أن تنجز في الفترة التي يعدّ فيها إلى عشرة أن تفرغ بطنك ومثانتك وتغسل قصعاتك ويديك ووجهك وتركض رملا عائدا إلى زنزانتك، وإلا فإن الكابل سيهوي فوق جزء ما من جسدك، قد يكون رأسك أو صدرك أو ظهرك. التبول والتغوط وغسيل القصعات والوجه واليدين (والوضوء إذا كنت متدينا) وملء قصعة الشرب تتم جميعها في المرحاض نفسه. في الخارج ثمة مغسلتان لا يجوز لك استعمالهما، ويضاف حلم شرب ماء نظيف من صنبور نظيف إلى أحلامك المؤجلة.
حين عدت إلى الزنزانة، كنت أكثر انتعاشا. الماء البارد الذي رشقته على وجهي أعاد لي بعضا من الروح، ولكن رجلي الملتهبتين من الجلد لا تزالان تئنّان تحت ثقلي
سمير يسمح لك بوقت أطول، وربما تغاضى قليلا عنك إذا رفعت عينيك عن الأرض أو إذا تباطأت في السير عائدا إلى زنزانتك. بعد الخروج إلى الحمام تشعر بالنشاط والانتعاش، وتروح تسير في زنزانتك متذكرا برودة الماء المنصب على وجهك ويديك. تشرب من القصعة ماء باردا، تحتسيه بروية كآخر كأس من الخمر لديك في هزيع أخير من الليل، لا تريد لها أن تنفذ فكل الخمارات مغلقة ولن تجد من يبيعك زجاجة أو كأسا أخرى.
حين عدت إلى الزنزانة، كنت أكثر انتعاشا. الماء البارد الذي رشقته على وجهي أعاد لي بعضا من الروح، ولكن رجلي الملتهبتين من الجلد لا تزالان تئنّان تحت ثقلي.
سمعت في الخارج صوتا يصيح: "جيب الـ 37". إنه أنا. وقع أقدام. الباب يفتح، ويأخذني العسكري إلى التحقيق من جديد.