icon
التغطية الحية

حوار الشعر مع الثقافات في ديوان "الوصية الحادية عشرة" لـ فؤاد آل عواد

2022.08.01 | 09:35 دمشق

ششعر
+A
حجم الخط
-A

من التغيرات الكبيرة التي لحقت بكتابة الشعر في كثير من النماذج، التخلص من المطولات المركّبة الصعبة، واتجاه الشعر نحو الاختصار ليس في المفردات والعبارات فحسب؛ بل وفي حجم النص الشعري نفسه. وهذا ما يلاحظه متابع مجتهد لما ينشر عربيا وعبر الترجمات المستمرة، فسوف يكتشف بسرعة أن القصائد القصيرة والمكثفة صارت هي الملاذ الأكثر إغراء للشعراء.

في هذا السياق تأتي كتابة الشاعر السوري | الألماني فؤاد آل عواد الذي اختبر ثقافتين وتجربتين مختلفتين: العربية والألمانية. إلى أن أخذ يكتب نصوصه باللغتين أيضا. فهو يعيش في ألمانيا منذ فترة بعيدة سمحت له بالقيام بالكثير مما يفترضه التحالف الفعال مع ثقافة البلد المضيف، فتمثّل الروح الفكرية والفنية الألمانية بحكم كونه شاعرا وأكاديميّا في الجامعة، ثم مؤسسا لصالون ثقافي شهير في ألمانيا باسم صالون الشعر الألماني العربي. Der deutsch-arabische Lyrik-Salon

نتناول في هذه القراءة أحد أعماله الشعرية المطبوع باللغتين الألمانية والعربية والذي يحمل عنوان: (الوصية الحادية عشرة). وكما يعطي العنوان رغبة في السؤال عما تكون عليه هذه الوصية الحادية عشر، فسوف نطالع في الديوان نقاط تحريض على السؤال والتأمل كثيرة. فكما نعرف أن الوصايا هي عشر في جميع المدونات الدينية والأخلاقية، فلماذا جعلها فؤاد زائدة وصية؟ حين نقرأ الوصية الحادية عشر نلمس مفتاح الجواب، يقول: "الوصية الحادية عشرة: لا تنتهِ"! ثم يتبعها بنصّ مكمّل للوصية وهو تقليد شاءه الشاعر أن يكون اسلوبا في الكتابة من حيث شكل القصيدة، يقول في النص المكمّل ص30:

"النهاية:

لا شيء يبقى هنا

سوى ألحان الأساطير ".

إذاً، هذه الوصية تريد أن ترسخ فكرة عدم النهاية، أي أن هناك إمكانية للمزيد من الوصايا طالما هي ليست وصايا سياسية ولا قطعية وليست قوانين قسرية تلزم الشاعر ولا القارئ ولا الإنسان في أي حال. وإذا كانت الوصية قولا ينشئه البشر لتنظيم علاقاتهم ووعي ذواتهم فيما بينهم؛ فإن هذه الوصية هي خطابٌ لغويّ. وهذا الخطاب ولأنه لصيق بالبشر فيمكنه أن يستمر، يمكن للإنسان دائما أن يقول وينشئ خطابا إنسانيا شعريا وجدانيا، وليس خطابا جازما مقدسا. لذلك الوصية ما بعد الأخيرة هي (لا تنته)، أي لا تتوقف عن رغبة القول حين يكون ذلك ممكنا وضروريا. لا سيما وأن الشاعر هنا يعتبر ألا شيء يبقى سوى ألحان الأساطير، فالوجود الذي على الإنسان ممارسة خطابه فيه هو وجود مشروط بما تبقيه الأساطير التي تترك موسيقاها فيما هي تتلاشى، من أجل هذا عليك أيها الكائن ألا تنتهي وأن تبقي لك أثرا يشبه ما تتركه الأسطورة من أثر. إن (لا تنتهِ) هنا تحمل فكرة رفض الموت والذوبان، فكرة الاندثار التي لا تليق بقيمة الكائن. أما الاستسلام لعدد الوصايا العشر فهو خضوع وخنوع، وهذا هو المعنى الأخلاقي والفلسفي للوصية الحادية عشرة التي جاءت لتطلق حرية الإنسان في اللغة والخطاب.

وثمة من يرى أن الوصية الحادية عشر بالنسبة للمسيح هي قوله (وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً) وقد ترك هذه الوصية مفتوحة على التأويل ولم يضع شروطا لذلك الحبّ.

وكما هو واضح فإن الشاعر يستعير تقنية الوصايا من المدونة الدينية، ولكنه يهدم فحوى الوصية وقانونها ويعيد تركيبها بما يناسب فحوى الشاعر والحرية، إنه يخرج لفظة الوصية من مدلولها الثابت المتحجر ليجعل منها وصايا حيوية تدافع عن حرية الإنسان وخياله وحقيقته القائمة في التمرد على كل قانون يقيد روحه. وقد تعمّد الشاعر استعارة مفهوم الوصايا هنا من أجل أن يخرب معناها عبر تقنيتها الشكلية نفسها، أي بالأداة ذاتها.

وقد اختار شكلا تجريبيا جميلا للتعبير عن مؤدّى الوصية، فقام بتقسيم النص إلى قسمين: الأول هو الوصية المختصرة التي تأتي في جملة واحدة مؤلفة من أداة وفعلٍ، أي من مفردتين فقط، ثم في القسم التابع لها وهو في أسفل الوصية، يقوم بالتنويع على الوصية وتوسيع دائرة معناها، سواء أكان هذا التوسيع تكملة أم تأويلا أم نفيا ونقضا. فكانت الوصية عبارة عن ومضة تبرق بسرعة، ليقعد الشاعر بعد الومضة يلملم ما اكتشفه في إضاءتها السريعة ويكثفه في نص قصير هو الآخر لا يتجاوز أسطرا قليلة.

ليست تقنية (الوصية) هي الوحيدة التي تدعونا لاكتشاف علاقة الشاعر بجماليات التعبير في النصوص المقدسة القديمة، بل إنه يعمد في عدة مواقع إلى استلهام تلك الجماليات الأسلوبية ليس من باب التقليد ولا العقيدة، بل هو يتعمد ذلك من أـجل تحطيم المعنى المقدس لإنشاء معنى ملاصق للإنسان وقيمته في التحرر من عبودية أي سلطة. وفي سبيل ذلك يقيم الشاعر تضادّا بين رؤيته ورؤية النصوص المقدسة.

سوف نشاهد هذا التضاد واضحا في النص التالي الذي يحمل عنوان (قصيدتي كفاف يومي) ص 32:

كتبت القصيدة اليوم

وصليت،

وصليتُ أن أكتبها غدا

 أعطني قصيدتي

كفاف يومي

أبتي

الذي كنتُ لك عبدا

ولم أر وجهك

خبأت نفسك خلف السحب

جالسا على عرشك

في مملكتك

وعدتني بكرسيّ

أعطني

ذاك الكرسيّ

ذاك الذي أسميته وعدا

عندما كنت لك عبدا

أبتي

الذي أرسلتني

ولم أر لك وجها

يصل التضادّ هنا بين النصّ المقدس والرؤيا الشعرية حدا ساطعا يجعلنا نتذكر مصطلحا شهيرا ابتكره نيتشه وجعله عنوانا لأحد كتبه وهو (نقيض المسيح)، ونستفيد من هذا الاستدعاء لنيتشه في أن نرى في نص فؤاد أيضا حالة النقيض بكل ووضح، أو بتعبير آخر الصوت المناهض للصوت الأصليّ، هنا لا نرى صوتا وصدى كردّة فعل، فالشعر ينبغي ألا يكون صدى، لذلك يعلن الشاعر صوته هو صوته كشاعر وصوته كإنسان حديث، مقابل صوت القانون الأصليّ للنصّ، يعلي صوت النقض والهدم وإعادة البناء.

الشاعر في حواره مع خطاب وجماليات النصّ المقدس، يعبر عن وعيه الفني لقضية (التناصّ) بين لغة القصيدة ولغة نصوص غائبة أخرى يتم استحضارها عبر قرائن أو دلالات مصاحبة تدل عليها وتترك للقارئ الشعري أن يبذل جهده في التقاطها

بدلا من أن يجعل الخبز كفاف يومنا كما هو مثبت في النصّ الديني (الليتورجيّ)، يجعل القصيدة هي كفاف يومه. فهي إذا معادل لمعنى الخبز وأهميته بالنسبة للكائن. وهو يعلن في القصيدة تحرره من سلطة (أبانا) المتعالية المفارقة للبشر، يعلن تحرره بكلمات صريحة وليست مجازية (أبتي الذي كنت لك عبدا) ويطلب من (أبتي) هذا أن يفي بوعوده التي وعده إياها في حين أن الشاعر لم يره ولم يشهد منه إنجازا لأي وعد. لذلك ينبغي التحرر منه باعتباره ليس الديني والمقدس السماوي، بل أيضا باعتباره مكافئا للسلطة والقمع والقهر. إن معالجة مفهوم النقيض هنا لا تتم عبر تفسير دينيّ، بل عبر تأويل دلاليّ للرموز الواردة في النص والتي على الناقد تحليلها وتفكيك أسرارها ليقرأ فيما وراء اللفظ حركة المعنى الأشمل من مسار دينيّ، نحن هنا أمام دفاع الشاعر والشعر عن حرية الإنسان أمام أي نظام سلطويّ مهما كان هذا النظام، ثقافيا أم رمزيا.

لا شكّ أن الشاعر في حواره مع خطاب وجماليات النصّ المقدس، يعبر عن وعيه الفني لقضية (التناصّ) بين لغة القصيدة ولغة نصوص غائبة أخرى يتم استحضارها عبر قرائن أو دلالات مصاحبة تدل عليها وتترك للقارئ الشعري أن يبذل جهده في التقاطها وفهم آلياتها.

فالشاعر يجعل من الحوار مع النصوص الأخرى المضمرة فسحة ضرورية لإعادة تركيب الحقائق الثابتة وتحريكها من حقلها الثابت، ويجعلها مناسبة لترتيب عناصر الحكاية الميثولوجية ترتيبا آخر يزحزحها عن ثبوتيتها. وهذا ما أنجزه بإتقان كما رأينا سابقا، وكما هو واضح في مجمل نصوص الديوان.

في قصيدة (شيءُ امرأةٍ) يقول (ص 42):

الأساطير تحكي

قصة امرأة

حاضرها ريح هادئة

شيئها حلم

يناجي الارض

ان تمنحنا عشبا

عشبا

يضلّل الأفاعي

يحاور الشاعر هنا القصة المعروفة حول حواء والأفعى، ولكنه يترك الحكاية رهنا لرؤية الشعر ويخرجها من إطارها، فالمرأة تصبح حلما في أن تمنحنا الأرض عشبا لا تستغله الأفاعي للوصول إلى هدفها في تشويه معنى الأنوثة القائم على الحب والنسيم والحلم.

ويستعيد رمز الأفعى في نصّ آخر (العودة)، ولكن هذه المرة بطريقة مغايرة تلائم بنية النصّ كما تتفق مع بنية النصّ الغائب هنا والنص الغائب هو عبارة عن قصة معبد عرف بمعبد الأفعى في ثقافة آسيا (بينانغ)، حيث بعد الانتهاء من بناء المعبد جاءت إليه الأفاعي فاستقبلها رهبان المعبد وقاموا باستضافتها الدائمة في المعبد، فشعرت الأفاعى بالسلام والامتنان وحصلت على حصانة دائمة فلا أحد يقربها ويقتلها، فعرف المعبد بمعبد الأفعى. يقول الشاعر (ص 50):

عندما تدخل معبدا

ترى وجها

يستقبلك بكل سرور

بعد وهلة

يتركك للأفعى

الجالسة على عرش ملكٍ

ملك الماء

تعطيك عصيرا

وترشدك للصلاة المكان

حيث تغني إلهة

وأخرى ترقص

فتطرق باب العودة بدون استئذان

ولكن الشاعر يقيم دلالة مختلفة جديدة للحكاية، خاصة أن قصة معبد الأفعى جاءت هنا بمحض المصادفة ولم يتعمد الشاعر الإحالة إليها، لكن مما يلفت النظر هذا التشابه العميق بين القصيدة والحكاية، الشاعر يستعمل رمز الأفعى لشيء آخر يريده هو وليس موجودا في الحكاية الأصلية، لتتحول الأفعى هنا إلى معادل مناقض للإنسان الذي يدعوك بحفاوة لزيارة المعبد، وحين تلبي الدعوة سرعان ما يتركك للأفعى لتقوم هي بمراسم استقبالك وضيافتك. بل هي سوف تدلك على مكان الصلاة، لهذا يختار الشاعر أن يغادر المعبد ويعود. ولأن اللغة الشعرية ليست محصورة بمنطق ما ودلالة أحادية، فيمكن لنا فهم دلالة العودة على أكثر من مستوى، قد يكون فعل العودة هنا تحررا من رمزية المعبد وما فيه من رمزية للأفعى، ورجوع إلى حقيقة الإنسان الطبيعية، وقد تكون عودةً واقعية لا مجال للتأويل فيها.

نجد في مثل هذا النص القدرة على وضع كل مفردة في مكانها ولا يمكن حذفها أو استبدالها، وهذا ما يفعله فؤاد في كتابته الشعرية بصورة عامة حيث يميل للاقتصاد اللغويّ خاصة وأنه يكتب النص مرتين بلغتين عربية وألمانية، مما يمنحه قدرة مزدوجة على المناورة واختيار الكلمات التي تقول المعنى بدقة أعمق بلا فائض لغويّ ولا ثرثرة.

وأكثر ما يستعمل الشاعر الاختصار إلى درجة المحو في قصائد قصيرة يحضر فيها موضوع (الزمن) وتلاشيه وكيفية إحساس الشاعر به، ويأخذ الزمن هنا حضورا فلسفيا واضحا خاصة وأن الشاعر يعيش في ظل ثقافة أوروبية تضمر وعيا مختلفا للزمن عن وعي الشرق الذي يرى الزمن طويلا ممتدا صحراويا، تحضر فيه معاني السرمدية والأبدية والخلود، في حين تغيب هذه الثقافة عن يوميات الأوروبيّ الذي يتعامل مع الزمن وكأنه دفقات من البرق تتلاشى بسرعة، أو إلماعات تزوره على عجل وينبغي أن يستثمرها كاملة على أكمل وجه. سوف نرى هذه العلاقة الرجراجة مع الزمن في عدة نصوص للشاعر فؤاد، في هذا الديوان وفي غيره أيضا، أي أن الأمر شكل هاجسا مستمرا لديه. ونختم بهذه القصيدة كدلالة على علاقته بالزمن (ص 98):

جلست غير حاضر في الأنا

تذكرت الغرفة التي لها شباك وبابان

وأثاثها يعكس ضوءا جديدا

فالغد سوف يأتي بعد غد

همست لي النجوم ولم تصمت تعابير اليدين

بقيت جالسا غير حاضر

في الأنا

مخبئا تعبي القديم

قبل يومين

في الغرفة التي لها شبّاك وبابان