حكم بالقانون! ماذا عن سيادة القانون؟

2023.02.21 | 06:27 دمشق

قوات النظام قرب دوما
+A
حجم الخط
-A

تتخلل كل جلسات الحوار السورية، المدنية والحقوقية والسياسية وتمتد للفكرية، جدل واسع حول ضرورة تطبيق القانون كمدخل للحل السوري. حيث إن تطبيق القانون سيحد من التعسف السياسي والديني والعرف الاجتماعي، ويحقق العدالة. ويبدو هذا القول في ظاهره، وربما نوايا أصحابه، قول مهم وضروري لكنه يخلو من التدقيق سواء في سياق التحليل العام، أو من حيث الفكرة في المبدأ وآليات التطبيق الممكنة، والأهم هو سؤال البيئة السياسية ومحتوى الدولة والقدرة على استقلال القانون قضائياً؟

بين الحكم بالقانون وسيادة القانون فروق ليست لغوية وحسب، بل فروق جوهرية تصل لحد التناقض البين. فسيادة القانون هو المصطلح المرافق لتحقيق الدولة استقرارها وفصل سلطاتها السياسية والتنفيذية والقضائية، وفصل الدين والعسكر عن الدولة ومؤسساتها. والقائمة على دستور وتعاقد جمعي حول تطبيق العدالة والحرية بشتى ميادينها السياسية والفكرية الإيمانية والعملية. ليصبح القانون وفقا لهذا هو الخلاصة التطبيقية والوضعية نصاً للإنصاف والعدالة ومنع الأفراد والمؤسسات والجهات الرسمية الحكومية وغير الحكومية من الاعتداء على حريات الآخرين جبراً أو إكراهاً، تسمى جريمة تضر بالصالح العام كأساس التعاقد الاجتماعي.

سيادة القانون هو التطبيق العصري والحديث لمقولة الفاروق عمر بن الخطاب "العدل سيد بين الناس"، فيما الحكم بالقانون هو تمثيل واضح لقدرة السلطة القائمة على سن القوانين والتشريعات التي تستطيع من خلالها حكم الناس، بحيث يظهر وكأن القانون هو الحاكم، في حين أن السلطة هي التي تحكم وتقرر شؤون الناس وطرق عقابهم وثوابهم. الحكم بالقانون يقوم حين تتغول سلطة ما سياسية أو دينية أو شمولية على مؤسسات الدولة، حيث لا فصل بين السلطات، بل هي مرجعية كل السلطات، فالسلطة التشريعية لا تصل لموقعها التشريعي إلا اذا رضيت عنها السلطة السياسية الحاكمة وزكت أفرادها أمنياً، وليس مجلس الشعب السوري استثناء في هذا، فالدوما الروسي ومجالس الشعب في غالبية دول المشرق التي تحكمها سلطات الأمر الواقع هو حالها، وتمتد لتاريخ الامبراطوريات وحكم الخليفة والملوك الذي يسن التشريعات والقوانين عبر قضاة يتم تعيينهم لمصلحة الحاكم وحاشيته. ولا خلاف هنا بين سلطة حديثة تسمى نظام حكمها بالجمهوري أو الملكي، وبين سلطات العصور التاريخية كخلفاء وأمراء وحكام من حيث الجوهر والبنية.

حُكمٌ بالقانون هو مخاتلة ومكر سياسي تمارسه السلطات التي تريد أن تروج لنفسها أنها دولة عصرية يحكمها القانون سيادياً، فيما حقيقة الواقع وتدقيق سياقه تبرز الفارق الجوهري بين الموضوعين من حيث الحقائق والواقع، وليس فكراً وحسب كما قُدم أعلاه.

في السنوات الأخيرة درجت السلطة السورية على الترويج للحكم بالقانون الوضعي والمدني والعمل على تعديل نصوصه بما يحقق مصلحة شريحة من الناس، الأمر الذي استفادت منه شرائح جيدة من السوريين وذلك من قبيل: تعديلات تتعلق بجرائم الشرف وحق وصاية الأم، وبعض الحقوق المتعلقة بالمرأة ومحاربة الفساد وغيره... ويبدو هذا جيدا بالمبدأ أتاح الحرية والحركة لشريحة مهمشة وساعية لتحصيل حقوقها المهدورة. لكن يبدو أن الصورة بذاتها باتت تزين أمام رصيد واسع من الحقوقيين: محامين وقضاة وناشطي المجتمع المدني، وهم أصحاب نوايا إيجابية حكماً، أن الحلول باتت متاحة، وأن تفعيل دور القانون هو الحل السحري لسوريا وبديل عن الحل السياسي.

وليس غريباً أن تتابع السلطة السورية عملها بشتى المجالات المحلية والدولية، تبحث في القوانين وكيفية إصلاحها أو التعامل معها بحيث تظهر وكأن سوريا دولة يحكمها القانون لا سلطة وحسب. في هذا السياق أصدرت السلطة عدة مراسيم عفو عن مرتكبي الجرائم وصلت لمرتكبي جرائم الإرهاب والمتخلفين عن الخدمة العسكرية... وأضافت بوضوح شديد أنه لا معتقلين سياسيين أو معتقلي رأي في سجونها، بل جميعها جرائم جنائية وقضائية تحال حسب الاختصاص لمحاكم الجنايات أو الإرهاب. وكأن سورية بلد حريات وسيادة قانون، عجبي!

في شهر كانون الثاني الماضي فقط، الشبكة السورية لحقوق الانسان، الشبكة المعترف بتقاريرها الحقوقية ومصداقيتها، وثقت أنه "ما لا يقل عن 178 حالة اعتقال تعسفي/ احتجاز بينها 14 طفلاً، و7 سيدة قد تم تسجيلها على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا في كانون الثاني، كانت النسبة الأكبر منها على يد قوات النظام السوري في محافظات ريف دمشق فدمشق ثم درعا".
وبحسب التقرير "شهد كانون الثاني ما لا يقل عن 9 حوادث اعتداء على مراكز حيويَّة مدنيَّة، 8 من هذه الهجمات كانت على يد قوات النظام السوري، معظمها في محافظة إدلب. كانت 2 من هذه الهجمات على منشآت تعليمية، و3 على أماكن عبادة". وفي سياق الحالات الواقعية يتم تحويل ملفات أصحاب الرأي السياسي والقلم والفكر في الداخل السوري بتقارير أمنية تلفق فيها التهم الجنائية لأصحابها بعيداً عن الرأي السياسي، ومن جهات متعددة إلى الأمن الجنائي، ويصار لتنظيم ضبوط جنائية فيها وتحويلها للقضاء بعد وضع "فيش" توقيف بحق أصحابها. ويفاجئ أصحابها بنوعية التهم الموجهة لهم وهي جزافية لا أساس لها من الصحة، وتضع صاحبها أمام حالة قانونية هو بالأساس يطالب بتحقيقها. وهو ونصيبه هنا في المثول أمام القاضي، فمنهم يحاكم غيبياً، ومنهم من يقع بين يدي قاضي صاحب مهنة وضمير وهؤلاء ما زالوا موجودين، يحكمون بالقانون والشهود والإنصاف، ولكن بعد أن يكون قد تعطلت مصالح الأشخاص لفترة من الزمن، عدا عن تعرضهم للابتزاز المالي لفترة طويلة! وستكشف الأيام القادمة عن حجم التقارير الأمنية المجيرة ضد أصحاب الرأي للقضاء بتهم جزافية لا علاقة لها بموضوع الحدث، بل للنيل من أصحابها، وتغيير محتوى العمل الأمني بسورية من قضايا رأي إلى قضايا جنائية!

الدقة والتحذير هنا مهمة والتفريق بين سيادة القانون وحكمٌ بالقانون مهم فكراً وممارسةً. فلقد ادعى الملوك والحكام في الماضي أنهم هم الدولة، كما قالها لويس الرابع عشر "الدولة أنا، وأنا الدولة" ومن ثم كان ينبغي قبول أهوائهم على أنها "سيادة القانون". وبالمثل، في العصر الحديث وأبرزها كانت النازية الآفلة وحكام الشرق ورؤساءه الذين يحصلون على 99% في الاستفتاء الشعبي ويدعي حكامها أنهم تجسيد للأمة، ويعينون قضاة المحكمة الدستورية العليا، وتقوم الأجهزة الأمنية باملاء تقاريرها على القضاة والمحاكم. وكأن الدولة يحكمها القانون كما هو شائع جدًا في الديمقراطيات العصرية الليبرالية. 

سيادة القانون تختلف كلية عن الحكم بالقانون، الذي يحول القانون إلى أداة ذات مصلحة معينة في خدمة الإيديولوجية والحكم وأصحاب السلطة، وهذا ما يجب أن يحذر منه الحقوقيون والقانونيون وناشطو المجتمع المدني الباحثون عن موقع وجداني لفهم للقانون وسيادته، فيما البنية السياسية والسلطوية القائمة بنية تعسف وتغول ومخاتلة خادعة عنوانها القانون حسبما يخدم مصلحة أصحابه وحسب!

كلمات مفتاحية