حرب المعابر والضمائر  

2018.10.24 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

من إسطنبول إلى الرياض، مروراً بمعبر "نصيب" بالقرب من "الركبان" المخيم الأكثر بؤساً في العالم، ثمة معارك سياسية وإنسانية محتدمة، وقودها الناس والحجارة، ومديروها ساسة وأصحاب مصالح يسيرون بعكس الاتجاه، يقاومون إرادات الشعوب ويسلّعون الدم والأحلام والطموحات، ويتاجرون بالحقوق، في حرب يبدو أنها لن تنجلي قريباً عن طرف غالب وآخر مغلوب، فهي أوسع حرب تخوضها المنطقة منذ قرون، عنوانها الرئيس الانقلاب على الاستبداد والتمرد على العقد الاجتماعي المزوّر الذي اختزل الوطن في "الدولة"، و"الدولة" في النظام الحاكم، والنظامَ الحاكم برأسه، لتتم – في المحصلة- شخصنة الوطن وسجنه في صورة رئيس أو ملك يُضحَّى بكل شيء -حتى الوطن- في سبيل بقائه رمزاً للسيادة، فتُفقد الأوطان وتبقى رموزها!!    

بعد ترقب طال، وسيطول، لم تأتِ أنقرة بجديدٍ شافٍ في قضية العصر التي تشغل العالم، وبقي لغز مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي لغزاً، وعوض أن تتكشّف الحقائق، يزيد الغموض يوماً بعد يوم، وهذا هو شأن الدول في الجرائم السياسية، فهي سلعة قيّمة لعقد الصفقات وتمرير المصالح على حساب الحقيقة، الحقيقة التي يمكن أن تُغتال كما اغتيل الضحية.

"الضمير العالمي" الذي تحرك لإنصاف دم خاشقجي، ظل نائماً يغض طرفه عن أسوأ أزمة تعصف بستين ألف مُستضعف في مخيم "الركبان" الذي يعاني منذ سنين

وإن كان هذا قد حدث على حساب دم فرد، فإنه حدث أيضاً ويحدث على حساب دم شعب، يبدو أن قتله مسألة وجهات نظر!.. فـ"الضمير العالمي" الذي تحرك لإنصاف دم خاشقجي، ظل نائماً يغض طرفه عن أسوأ أزمة تعصف بستين ألف مُستضعف في مخيم "الركبان" الذي يعاني منذ سنين، هنا شيخ تأكل "الغرغرينا" قدمه، وفي خيمة قريبة طفل أكل السلّ رئتيه، وفي الجوار أرملة تستوحي القصة المأثورة وتضع الحجارة في قدرها لتطبخ الوهم لأطفالها عسى أن تأخذهم سِنة من النوم وهم ناظرون.. وفي تلك الصحراء الظالم بردها، تقبع ستون ألف حكاية لستين ألف ضحية، يغلق العالم دونهم الأبواب والحدود ومنافذ الصحف وعدسات الكاميرات.

وغيرَ بعيد منهم، صار بإمكان السيّاح والتجار و"المقاومين الممانعين" أخذ نصيب من خيرات سوريا وزادها الرخيص، أربعة كيلو غرامات من التفاح بدينار ونصف، والبطاطا بسعر التراب: يصيح أردنيون، ليشهد معبر "نصيب" بعد أسبوع من افتتاحه بعد غلق دام ثلاث سنوات، أزمة عبور وأزمة أخلاق، فتفاح القلمون لا يمكن فصله عن لون الدم الذي سُفك هناك، والبطاطا فيها شيء من أشلاء الشهداء ولاشك، وهواء دمشق الذي يستنشقون فيه بقية من غاز ربما لا تكفي لقتلهم، ولكنها كافية لخنق الضمير، أما شاخصات الدلالة المرورية من الحدود إلى آخر موطئ قدمٍ في دمشق فمكتوب عليها: كل شيء هنا مغمّس بالدم، لا تأكلوا من الثمر الحرام.. ولكن بعضهم يصر على أكل لحم أخيه حياً وميتا.. فيما يُعرض أكثرية الأردنيين عن الثمر الحرام وحالهم يقول: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.

معذور من يعقد المقاربات والمقارنات بين قضية خاشقجي وقضية "الركبان" أو مجزرة التحالف الأخيرة في دير الزور، فلو حظي السوريون ببعض الاهتمام العالمي كما جرى بقضية خاشقجي لسقط صنم "الأسد" منذ زمن

في حالنا الراهنة، معذور من يعقد المقاربات والمقارنات بين قضية خاشقجي وقضية "الركبان" أو مجزرة التحالف الأخيرة في دير الزور، فلو حظي السوريون ببعض الاهتمام العالمي كما جرى بقضية خاشقجي لسقط صنم "الأسد" منذ زمن، إلا أن من يقرأ القضيتين جنائياً وحقوقياً وإنسانياً لن يصل إلى حل أو أجوبة مرضية، ولن تكون مُخرجاته سوى مزيد من اليأس والشعور بالمظلومية، أما القراءة السياسية فتوصل إلى بعض حقيقة ما كان أحد يتمنى أن يعرفها أو يعترف بها، فلسنا الدولة التي تضخ أكثر من عشرة ملايين برميل نفط يومياً للعالم، ولسنا صمام أمان المنطقة كما كان يُصوّر لنا، فها هم قد سمحوا بخراب البصرة مرة أخرى، كما سمحوا باستباحة إرث دمشق وتغيير لون انتمائها، بعدما سلبونا أدوات الكفاح أو معظمها، فيما لا يزال المجرمون ممثلين في مجمع الأمم في تكريس لشرعيتهم التي يرى أصحاب العقد السياسي أنها الضمانة لاستقرار العالم الذي يريدون، وكي يتماهى ما نريد مع ما يريدون لنا، دبروا بليلٍ لعبة الدستور، كي يتواطأ العقد الاجتماعي مع العقد السياسي، وكي نكتب نهايتنا المأساوية بأيدينا، تلك الأيدي التي يجب قطعها قبل أن تخطَّ نهاية الحلم وتحوّله كابوساً..