icon
التغطية الحية

حرب الرموز الثقافية في مونديال قطر

2022.12.22 | 09:00 دمشق

عباءة بشت
+A
حجم الخط
-A

لم يفتتح العرب مونديال 2022 بالأيقونات والرموز، وإنما بادر إلى ذلك الغرب الذي لا يعاني اليوم فقط من إسار الأيقونات، بل إنه يعيش منذ عصور الظلام في أوروبا حرب رموز داخلية قبل أن يصدّرها إلى الخارج عبر حروب "الفرنجة" التي سمّاها -هو- الحروب "الصليبية" نسبة إلى رمز.

وفي الوقت الذي تتحكم الرموز بالذهنية الغربية وتهيمن عليها، تعامل العرب مع الرمز بصورة أخرى مختلفة. فالرمز الروحاني بالأساس ابتكار شرقي، ومن الشرق ظهرت الأفكار والطواطم الأكثر تطوّراً ومن ثمّ الأديان السماوية. في حين كان الغرب مجرّد مستهلك لتلك المنتجات كي تتحكم به. أما العرب، فكانوا أكثر تتحرراً منه؛ هم الذين كانوا يصنعون إله التمر ثم يأكلونه حين يجوعون في ترحالهم.

قصة شعار/ عَلَم "المثلية الجنسية" تبدأ من هنا، حيث يخضع الغرب لسلطة لا قوة لها، سوى الخوف الدفين من كل ظاهرة تضرب عميقاً في مناطق حساسة ضمن ما عرف بمسار الحريات. والحريات بلا وعي ضروراتها عدوانٌ على الآخر كما هو معلوم.

من جانب آخر بدت لعبة الإشارات الرمزية قناعاً يخفي خلفه صراعاً حقيقياً يدور تحت الرماد، بين ثقافات مختلفة، وما تكميم الأفواه الإرادي سوى تعبير أعلى عن ذلك التناقض في المواقف والموازين، فاليد التي وُضعت على الفم هي ذاتها التي كمّمت فم "مسعود أوزيل" وحاسبته على صورة وعلى تصريحات إنسانية تتعلق بثقافته الأصلية الأصيلة.

تبع ذلك تحوّل مباريات الرموز إلى حروب إعلامية لم تتوقف لحظة واحدة طوال المونديال، مع وعيد ورعيد برفع شارات مستفزة للثقافة العربية الإسلامية دون مبرّر، وكأن الآخر -كما هو عليه- "تهديد" للغرب. فأين ميزان الحريات هنا؟

تبادل اللاعبون رموزهم أيضاً، انتقاماً من مواقف قديمة لمدرّبين، لم يكونوا عادلين في الماضي حيال زملاء أولئك اللاعبين، وأرسلوا إشارات عديدة تذكّر في لحظات الانتصار بخلل القيم وعدم الإنصاف في استخدام السلطة. بينما دفع آخرون غرامات مالية بلغت ملايين الدولارات، لأنهم رفضوا وضع صور وعلامات تجارية تتعارض مع ثقافة وقيم العرب والإسلام.

أما عباءة ليونيل ميسي العربية التي ألبسه إيّاها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني فكانت ذروة حروب الرموز الثقافية ولعلها بدت كردٍّ بليغ أقفل دائرة النزاعات بين الثقافات

شارة التوحيد بالإصبع التي رفعها لاعبو المنتخب المغربي، وجدها الإعلام الغربي فرصة لاتهام العرب المسلمين بأنهم يقلّدون حركات وإشارات مسلحي تنظيم "داعش" الإرهابي، قبل أن يعتذر عن ذلك التشبيه حين وجد أن كل لاعبي العالم يرفعون تلك الإشارة تعبيراً عن النصر. بمن فيهم لاعبو السياسة مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

حتى صور الحيوانات كالقرود وغيرها تم استعمالها في الدنمارك للإشارة إلى لاعبي المغرب وهم يعانقون أمهاتهم.

أما عباءة ليونيل ميسي العربية التي ألبسه إيّاها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، فكانت ذروة حروب الرموز الثقافية. ولعلها بدت كردٍّ بليغ أقفل دائرة النزاعات بين الثقافات.

وحين تشاهد الإعلام الغربي وهو يصف ذلك التكريم الذي نعرفه في بلادنا وثقافتنا بإلباس "البردة"، منذ صدر الإسلام، وأشهر تلك المواقف المتصلة به قصة الشاعر العربي الكبير كعب بن زهير الذي ألبسه الرسول الكريم، بُردَته (عباءته) تشريفاً له حتى حملت قصيدته التي امتدح النبي الكريم بها اسم البردة النبوية الشريفة المحفوظة اليوم في متحف قصر "توب كابي" في إسطنبول المخصّص للأمانات المقدّسة.

تلك القصيدة التي تبدأ بقول كعب:

"بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ

مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ"

والتي من أبياتها:

"إنَّ الرَّسُولَ لَنورٌ يُسْتَضاءُ بِهِ

مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ مَسْلُولُ

نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي 

وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ".

 

 

وعلى خطاها سار الإمام البوصيري في قصيدته:

"أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذي سلمِ

مزجتَ دمعًا جرى من مقلةٍ بدمِ

أمْ هبَّتِ الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ

وأوْمَضَ البَرْقُ في الظلْماءِ مِنْ إضَمِ"

ثم أمير الشعراء، أحمد شوقي بك، في نحت قصيدته على "نهج البردة" التي غنّتها السيدة أم كلثوم، والتي يقول مطلعها:

"ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ

 أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ

رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَداً

 يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ

لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً

يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ المُصيبِ رُمي

جَحَدتُها وَكَتَمتُ السَهمَ في كَبِدي

جُرحُ الأَحِبَّةِ عِندي غَيرُ ذي أَلَمِ

لَقَد أَنَلتُكَ أُذناً غَيرَ واعِيَةٍ

وَرُبَّ مُنتَصِتٍ وَالقَلبُ في صَمَمِ

يا ناعِسَ الطَرفِ لا ذُقتَ الهَوى أَبَداً

أَسهَرتَ مُضناكَ في حِفظِ الهَوى فَنَمِ

يا نَفسُ دُنياكِ تُخفى كُلَّ مُبكِيَةٍ

وَاِن بَدا لَكِ مِنها حُسنُ مُبتَسَمِ

صَلاحُ أَمرِكَ لِلأَخلاقِ مَرجِعُهُ

 فَقَوِّمِ النَفسَ بِالأَخلاقِ تَستَقِمِ".

وأي مُطّلعٍ من الغربيين على "الآخر" الذي يطالبوننا باحترامه في كل مناسبة، سيعرف أن عادة إلباس العباءة هي عادة عربية متكررة الحصول كل يوم ولا تقتصر على المجتمع البدوي، في سوريا يقوم رئيس الدولة، وقبله كان الوالي العثماني، بإلباس عباءة جديدة للمفتي العام أو خطيب صلاة العيد في العيدين الفطر والأضحى من كل عام.

والعريس، يزينون كتفيه بالعباءة احتفالاً به. وفي غالبية ساحقة في البيوت العربية عباءة تقليدية عربية للرجال، تحمل أسماء مختلفة: "الخاجية، البشت، الحاسبي"، أو بحسب لونها فيصبح اسمها "الخستاوي، والأصفر، والأسود، والصاجي، والأبيض..". ومن أكثر أصنافها شيوعاً "السوري والوبر والهربد وأبو شهر"، وكلها تخاط إما من الصوف أو الوبر وتزيّن بالحرير وبخيط "البريسم" الذي اشتهر في الأغاني الشعبية القديمة.

صانع تلك العباءة يعرف بـ "العبايجي"، وأشهر الأماكن التي تصنع فيها هي مدينة دمشق، ولا يزال أهل الخليج يطلبون "العبي" الشامية من صنّاعها المهرة في سوريا الذين كانوا وما زالوا يطرّزونها بأسلاك معدنية مذهبة. ولا يقتصر لبسها في سوريا على العرب المسلمين، مع أنها من أصيل عاداتهم، فهي منتشرة بين كل الأديان والطوائف والأعراق السورية.

مفاجأة الغربيين بهذا السلوك، والألفاظ التي استعملوها للتعبير عن انزعاجهم من هذا الحدث التكريمي، مثل قولهم: "سببت لنا ألماً في البطن"، "صورة مزعجة"... وغير تلك التعبيرات، كلها تعكس جهلهم التام بالتاريخ، حتى تاريخهم هم، وهم الذين يرتدون في حفلات التخرّج من المدارس الثانوية إلى جامعة أكسفورد وهارفارد وغيره من كبيرات الجامعات في العالم الغربي، عباءة قادمة من العباءة العربية التي كانت جامعات الأندلس تلبسها للخريجين جميعاً، ومن بينهم أولئك الأوروبيون الذين كانوا يدرسون فيها قبل العودة إلى بلادهم لنقل علوم العرب.

ويعيد هذا المشهد الذي يفضح عدم اطلاع هؤلاء على الحد الأدنى من أبجديات المعرفة، السؤال الأبرز في القرن الماضي، حول التقدّم والتخلّف. من هي المجتمعات المتقدّمة؟ ومن هي المجتمعات المتخلّفة؟

هل المجتمعات المتقدّمة هي تلك الغنية بالجيوش والأساطيل والأرصدة الاحتياطية الضخمة التي آن أن يسألها أحد ما: من أين لك هذا؟ أم هي تلك التي تم استغلالها وامتصاص ثرواتها واتهمت بالتخلّف لعدم لحاقها بالغرب وصورته النمطية ومعاييره من اللباس إلى القيم إلى الفكر وصولاً إلى الجسد؟

في النهاية كانت منصة المونديال الذي أسدل ستارها بمشهد العباءة "البشت" ساحة قتال حقيقية لا من أجل الفوز بالكأس وحدها، بل من أجل إعادة التفكير في كل ما سلف من تصادم بين القيم والميول والاتجاهات، لن تفقد قيمتها بانتهاء المناسبة الرياضية الكبرى، بل ستواصل تأثيرها عبر المزيد من النقاشات التي تطول السياسة والفكر والحريات والدساتير والقوانين، لا سيما في الحالة السورية التي ما يزال بعض المتداخلين فيها يبحثون عن إبرة الحريات في أكوام القش، وهم يرتدون نظارات سوداء كتيمة.