جرائمنا الأسرية.. والمسؤولية الباقية

2022.02.26 | 05:29 دمشق

msds.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع احتدام الصراعات، وزيادة الضغوط الاقتصادية، تزداد الجرائم في الأُسَر العربية، وأكثرُ ما يقلق منها تلك التي في الأسرة الواحدة، حين تقع من الأقارب؛ من الزوج على الزوجة، أو من الأب على الأبناء مثلًا.

وبرغم البشاعة والاستنكار الذي لا يخفِّفه تكرارُ تلك الجرائم، في هذا النطاق الأُسَري الذي نفترضُه الملاذَ الآمن من الضغوط الخارجية، إلا أننا لا نلبث أن نتذكَّر أنَّ أول جريمة في تاريخ البشرية وقعت في الأسرة، حين قتل قابيلُ أخاه هابيل، تلك كانت الصدمة الأولى التي ستبقى تهزّ أعماق الضمير الإنساني، وتقلق الروابط الأسرية الوشيجة، وكأن الأقرب هو الأكثر تهديدًا.

ولا يخفى أنَّ شدَّة القرب والتداخُل، كما قد يكون سببًا في التعاون القائم على المودَّة الطبيعية، فإنه قد يكون سببًا، أيضًا، للعداوات الناتجة عن التحاسُد، أو النزاعات المالية، أو نتيجة محاولات فرْض السيطرة، بما يتجاوز الحدود، كما حين يستبدّ الأب بأبنائه، بسلطته الأبوية، أو يهملهم لتحقيق مصالحه الأنانية، أو حين يتسلَّط الأخ الأكبر، ويتعسَّف، عندما ينعدم دورُ الأب الغائب، أو المغيِّب نفسَه، أو حين يفقد الأخُ الأكبر الذي أصبح صاحبَ السلطة والولاية قرارَه الذاتي؛ فيغدو لعبةً في يد زوجته؛ فيظلم أخواته، ويصادر قرارهنّ؛ متذرِّعًا بالقيم، والحفاظ على مصالحهن.

وأغربُ ما يحدث أنْ يدفع شعورُ الأب بالعجز عن الإنفاق على أبنائه وزوجته إلى التخلُّص منهم، وكأنه يريد أن يغيِّب ما يذكِّره، باستمرار، وبقربٍ لصيقٍ، بعجزه ومهانته؛ في مسعى هروبيٍّ يائس، بعد أن يكون وصل إلى حائط مسدود، محتكمًا بوعي، أو بلا وعي، إلى نرجسيَّةٍ عمياء، مغرقًا في ذاتيَّته، إلى أبعد حدّ، ومنتقمًا بأقربِ المقرّبين له، من المجتمع الذي يرى أنه ما أنصفه.

لا يخفى أن الأُسَر الأكثر تحصينًا وتماسُكًا، هي الأقدر على تلافي تلك الارتدادات، كما لا يُنكَر أنَّ قسمًا من تلك الجرائم لها أسبابُها السابقة لهذه الأزمات المستجِدّة

تشير أحدث توقُّعات البنك الدولي الاقتصادية إلى أنه بحلول عام 2023 سينخفض ناتج البلدان الهشَّة والمتأثِّرة بالصراعات بنسبة 7.5% عن مستويات ما قبل الجائحة. وهو ما يقلُّ كثيرًا عن التوقُّعات في بلدان الاقتصادات الصاعدة، والبلدان النامية عمومًا. وبالنسبة للفئات الأكثر احتياجًا، يعني ذلك انعدام الأمن الغذائي والفقر المدقع، وفقدان رأس المال البشري، وتضاؤل الفرص الاقتصادية، إضافة إلى مخاطر العنف والنزوح القسري.

ولا يخفى أن الأُسَر الأكثر تحصينًا وتماسُكًا، هي الأقدر على تلافي تلك الارتدادات، كما لا يُنكَر أنَّ قسمًا من تلك الجرائم لها أسبابُها السابقة لهذه الأزمات المستجِدّة. ونحن لا نملك حلًّا سريعًا وحاسمًا أمام المؤثِّرات الخارجية المتمثِّلة في الحروب وتداعياتها، والأوبئة وتأثيراتها، ولكننا قادرون على تحسين هامش الخيارات الذاتية.

وتأتينا أخبارُ تلك الجرائم من بلدانٍ عربية عدّة، وهي ملحوظة أكثر في مناطق تعاني فقرًا شديدًا، كما مصر، أو ترزح تحت تداعيات الصراع، كما سوريا، حتى في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. وليس انتهاءً بقطاع غزة، في فلسطين، في جريمة أخيرة، قتلَ فيها زوجٌ زوجتَه، بعد أن كسَّر عظام صدرها، وتسبَّب بنزيفٍ أفضى إلى الموت، بهذه الهمجية والوحشية الصادمة.

نعم، فاقمت التطورات الاجتماعية والاقتصادية من أزمة الفئات السُّكَّانية المعزولة، كما في العشوائيات في مصر، وأشباهها في بلدان عربية أخرى؛ حيث البِطالة، وترعرُع الجهل والانغلاق. وأدّى استفحالُ العولمة واقتصادات السوق، والغلاء الفائق لأسعار السِّلَع والخدمات الأساسية، وإهمال الدولة دورَها الرِّعائي، إلى ذلك التطرّف الطبقي، وتفاقُم مظالم التوزيع؛ ما سمح لبعض المنظِّرين باستحداث تسمياتِ "قُمامة" أو "قذارة بشرية"، أو حثالة الناس، حيث اليأس، وشبه انعدامٍ للقيم، وتاليًا ارتفاع نسبة الجريمة. هذا مع الانتباه إلى أن الجريمة، ومنها الأسرية ليست مقتصرة على الطبقات الفقيرة، أو المعدَمة، إذ إنها تتعدَّاها إلى الطبقات المتوسطة، والمتعلمة.

تلك الأوصاف "القمامة" أو "القذارة البشرية" مَن المسؤول عن تحقُّقها، إن كانت متحقِّقة؟

لا يخفى أنَّ للنظام السياسي الذي ينفِّذ سياساتٍ تمنح امتيازاتِ فائقةَ لفئاتٍ محدودة موالية، ويحرِم معظم الناس من فُرَص متكافئة في التعليم والعمل وغيرهما، حصةً كبرى في المسؤولية؛ إذ لا يُعقَل أن تكون الأسباب الفردية؛ من قبيل الأمراض النفسية، وضعف الحصانة الذاتية، هي المسؤولة وحدَها، عن هذه الارتفاعات المفزعة في الجرائم الأسرية، ففي مصر مثلًا، تشير إحصاءاتٌ مستقلّة إلى أنَّ أغنى 20٪ من السكَّان بمصر يحصلون على 44٪ من الدخل القومي، وأنَّ أفقر 40٪ منهم يحصلون على أقل من 9٪ فقط، وبما تعنيه تلك الفجوة من بِطالة تعدَّت الـ 12٪.

فبقدر هشاشة النُّظُم السياسية، وخشيتها من تنامي السُّخط الشعبي الواعي لضرورة تغييرها، قد تجد نفسها مضطرة إلى استباق تلك الفئات المعادية في نظره، أو القابلة إلى العِداء، ولو أفضت سياسات تلك النُّظُم إلى تخريب تلك الفئات تخريبًا تامًّا؛ بترْكِها إلى الانحطاط الذاتي القِيَمي والاستنزاف الجرائمي؛ بتحويل أفرادها إلى لصوصٍ ونهَّابين، ومدمنين لا خطرَ منهم على نظام الدولة، وإنْ كانوا من أكبر المؤشِّرات على فشلٍ ذريعٍ في رعايتها واستيعابها لأبناء شعبها.

إن لم يكن التضامن بدافعٍ إنساني، أو أخلاقي، أو ديني، فليكن بدافع الحفاظ على الوجود، ومواجهة التهديدات الممتدة، وإدراك الالتحام الحتمي بالكلِّ الاجتماعي، ووَحْدة المصير، والعيش المشترَك

في الحلول:

مع أن الحلول الحقيقية لا يمكن توقُّعها، دون تغيير السياسات الاقتصادية والرِّعائية للدولة، إلا أننا مضطرون، حتى إنجاز ذلك، أن نحاول تدابيرَ تخفيفية، كالتوجيهات الأخلاقية والتربوية، في مواجهة ما يسمِّيه المفكِّر الفرنسي كريستوف غويلي "تبنِّي إيديولوجيا "المواطن العالمي"؛ "منزوع الجذور"، وذلك بمحاولة استنهاض تلك الجذور، والخصوصيات المجتمعية؛ بتعزيز الروابط الأسرية الأوسع العابرة لانغلاق الوحدات الأسرية الصُّغرى؛ لتفادي انعزالها التام؛ ما أمكن، وهنا قد ينفع التضامن والتكافل، ليس المادّي فقط، ولكن التوجيهي والمعنوي، بالتفقُّد العائلي، والتدخُّل المانع من استبداد المسؤول المباشر المأزوم بقراراته العدوانية المدمِّرة.

وإن لم يكن التضامن بدافعٍ إنساني، أو أخلاقي، أو ديني، فليكن بدافع الحفاظ على الوجود، ومواجهة التهديدات الممتدة، وإدراك الالتحام الحتمي بالكلِّ الاجتماعي، ووَحْدة المصير، والعيش المشترَك. فحتى المجتمعات الجاهلية، كانت تستبقي، في كل الظروف، حدًّا ضروريًّا من التضامن القائم على المروءة، بحسٍّ جمعيٍّ يعي خطورة خرْق تلك الأعراف الجماعية المَرْعيَّة. وكان كلُّ من ينتهكها يعاقَب بالطرد من القبيلة. أو يوصم بوصمة العار والعيب.

وإجرائيًّا، قد ينفع في بعض الحالات اتفاقُ الأسرة على تدابير معيشية، تُرَتَّب فيها الأولويات، ويعاد النظر في كيفية الإنفاق.

وما تزال مجتمعاتنا، بالرغم من تكاثُر التحدِّيات، تحتفظ ببقيَّة من القيم، وحتى لو كانت تتمثَّل في النظرة الاجتماعية النابذة لذوي الجرائم، والانتقادات اللاذعة، وهي تمثِّل لغير قليلٍ من المُعَرَّضين للانزلاق الجُرْمِي حاجزَا رادعًا، مع أن اللوم الاجتماعي والتوبيخ، وحتى العقوبات، تفقد كثيرًا من تأثيرها، لدى غير قليلٍ من الناس، حينما تضعف لديهم المناعة الذاتية، أو تنهار، أو حين تكون أعباؤهم فوق احتمالهم.