"جدار برلين" التاريخ المزيّف 1

2022.12.15 | 06:08 دمشق

"جدار برلين" التاريخ المزيّف 1
+A
حجم الخط
-A

شخصياً، أصنف نفسي ضمن أشد الأعداء التقليديين لنظرية المؤامرة، بل ولأتباعها حتى. ومع ذلك، يحدث أحيانا أنها تهزمني لوضوحها وشدّة وقاحتها، حين تتكشّف خيوطها، بعد سنوات من الاستسلام لما تبدو أنها يقينيات، ليتبين فجأة أنها كانت يقينيات بالغة السذاجة، خصوصاً حين يتم الكشف فجأة عما كان يجري تحت الطاولة الوسخة للسياسة. مناسبة ما أقول، هو أنني مؤخراً اكتشفت حلقة جديدة، ربما عرفها آخرون قبلي، مما جرى خلال أشد الفترات سخونة في الحرب الباردة، في النصف الثاني من القرن العشرين.

جميعكم تعرفون، الموقف الأخلاقي الحاسم للغرب عموماً ولألمانيا الغربية، من جريمة بناء "جدار برلين" الذي شطر المدينة بين شرق وغرب. وَلَّدت تلك الخطوة مآسي شخصية وعائلية لمئات آلاف الألمان على ضفتي الجدار. هناك ألمان شرقيون حفروا الأنفاق للانتقال إلى الغرب، وهناك من صنعوا مناطيد حرارية في المنازل، لتجاوز الحدود جواً، غير آبهين باحتمالات المخاطر المميتة. طبعاً إضافةً إلى العشرات ممن قتلوا بالرصاص وهم يحاولون تسلّق الجدار.

لنعد قليلاً إلى الوراء. في خطوة غير مألوفة، قام أعداء ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بتقديم مساعدات اقتصادية هائلة لعدوتهم خلال الحرب التي انتهت للتوّ. في حزيران/يونيو 1947، أعلن الجنرال الأميركي جورج مارشال خطته التي ستعرف فيما بعد باسمه "مشروع مارشال". تعهدت فيها الولايات المتحدة بإعادة إحياء الاقتصاد الأوروبي، وخصوصاً الألماني.

يوم 13 آب/أغسطس 1961، نفذ قادة ألمانيا الشرقية السابقة (جمهورية ألمانيا الديمقراطية) قرارهم الدراماتيكي بعزل برلين الشرقية عن الجزء الغربي من المدينة

كان الهدف من تلك الخطوة التي بدت غير مفهومة، تفادي تكرار ما يمكن وصفه بدورة الحرب. بعد الحرب العالمية الأولى، حطمت معاهدة فرساي الاقتصاد الألماني، بسبب فرض تعويضات مدمّرة. تلك المطالب التعجيزية من الدولة المهزومة، هي ما أدت إلى تعبيد طريق فائق السرعة للوصول إلى حرب جديدة. ولم يكن هناك أحد يرغب في العودة إلى تلك الدورة ثانية، ‏فكانت الخطوة الأولى هي دعم الاقتصاد، بهدف استعادة الأمة الألمانية لدورها الطبيعي.

يوم 13 آب/أغسطس 1961، نفذ قادة ألمانيا الشرقية السابقة (جمهورية ألمانيا الديمقراطية) قرارهم الدراماتيكي بعزل برلين الشرقية عن الجزء الغربي من المدينة، عبر بناء الجدار الخرساني بدلاً من الأسلاك الشائكة، ومنع أي انتقال بين الطرفين. كانت ألمانيا حتى تلك اللحظة منقسمة بين نفوذين، السوفييتي في الشرق والأميركي الفرنسي البريطاني في الغرب.

تتالت الإدانات من كبار مسؤولي إدارة الرئيس الأميركي جون كيندي، للخطوة الوحشية التي قامت بها ألمانيا الشرقية، والتي هدفت لمنع اللاجئين من العبور إلى الغرب. مع ذلك، فإن هؤلاء المسؤولين أنفسهم، بمن فيهم دين راسك وزير الخارجية في تلك الفترة، رأوا سراً أن الجدار يساهم في استقرار "ألمانيا الشرقية". الاستقرار المطلوب الذي سيخفف من حدة الأزمة المتفاقمة على برلين الغربية آنذاك، بين المعسكرين الشرقي والغربي.

في الفترة الأخيرة قبل إنشاء الجدار، فرضت قوات الأمن في ألمانيا الشرقية، ضوابط صارمة على الحدود، خاصة في برلين، بهدف وقف تدفق آلاف اللاجئين، الذين فرَّ معظمهم عبر المدينة. لتبرير هذه الإجراءات صرح الشرقيون بأن بلدهم كانت تواجه عدواناً من ألمانيا الغربية.

حقيقة الأمر، أن القلق الأساسي كان التخوف من كارثة اقتصادية، نتيجة هجرة الكوادر. في الأسابيع الأخيرة قبل إقامة الجدار، كانت الشرطة الألمانية الشرقية قد منعت جميع الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و35 عاماً، في جميع أرجاء الشرق الألماني، من الصعود إلى القطارات المتجهة نحو برلين الغربية.

مع ذلك، يبقى هناك جانب آخر مهم باعتقادي، هو ما دفع لتلك الخطوة الحاسمة. إنه الصورة الإيديولوجية المقارَنة بين الطرفين. دولة اشتراكية يهرب منها سكانها، ليلتحقوا بالجانب الآخر الرأسمالي، مما يتنافى ويقوّض كل الدعاية الشيوعية عن جنّة الاشتراكية الموعودة التي ستقوم على أنقاض العالم الرأسمالي المتوحش. سُجِّل هروب 1100 ألماني شرقي يومياً في الشهور الأخيرة قبل بناء الجدار.

كان الكثير من الألمان في الجانب الشرقي، قد شعروا بالقلق من أن الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشوف والألماني أولبريخت قد يوقعان معاهدة، كثر الحديث عنها في السنة الأخيرة. معاهدةٌ يمكن أن تهدد وصول الحلفاء وألمانيا الغربية إلى برلين الغربية، كما حدث عام 1948، وبالطبع تمنع انتقال المواطنين نهائياً نحو الغرب، وتنهي الفرصة الأخيرة للهروب، ما أدّى لازدياد عدد الفارّين. كان مجموع من انتقلوا من مناطق السيطرة السوفييتية إلى مناطق التحالف الغربي منذ تقسيم ألمانيا حتى ذلك الحين، يقترب من ثلاثة ملايين ألماني.

على مدى أكثر من ربع قرن، بين بنائه عام 1961 وهدمه عام 1989، كان جدار برلين رمزاً لنظام ديكتاتوري استبدادي قام بسجن شعبه خلفه. بل ورمزاً للاستبداد السوفييتي والشيوعي عموماً وقمعه لحرية الشعوب. تم تداول ذلك في الإعلام وفي كامل الأدبيات السياسية الغربية يومياً، خلال كل تلك السنوات. وغدت برلين بؤرة الحرب الباردة، وخط المواجهة الأول بين طرفي ما كان يعرف بالمعسكر الغربي والشرقي.

في 12 أغسطس 2011، بعد مضي خمسين عاماً تماماً على إقامة الجدار، أفرجت حكومة الولايات المتحدة عن بعض وثائق أرشيف الأمن القومي. تثبت تلك الوثائق، رغم أن كثيراً منها جزئي ومُقتطَع، أنه كانت هناك مصلحة أميركية وغربية عموماً وحتى ألمانية، في عدم اتخاذ أي إجراء مقاوم لبناء الجدار. الأمر الذي فسَّر مرور تلك الخطوة بسلاسة، دون اتخاذ الغرب أي إجراء عملي لمنعها. طبعاً باستثناء خُطب الإدانة الفارغة، وسواها مما ينحصر بما هو إعلامي فقط.

تفيد الوثائق، أنه حتى قبل قيام الجدار، كانت توصية المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية، بأنه "إذا اتخذ الألمان الشرقيون والسوفييت إجراءات صارمة لوقف تدفق اللاجئين، فيجب على واشنطن الاحتجاج والإعلان عن ذلك للعالم، ولكن يجب تجنب أي إجراء يؤدي إلى تفاقم المشكلة، مما قد يشجع على القلاقل". لأن أي تمرد في ألمانيا الشرقية لا يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة "في هذا الوقت".

بحسب وثيقة تحمل رقم 4 وهي برقية أرسلها "ليويلين طومسون" السفير الأميركي لدى الاتحاد السوفييتي حينها، إلى وزارة الخارجية، يقول فيها: "باستثناء خطورة زيادة الضغط، الذي يمكن أن يؤدي إلى الانفجار في ألمانيا الشرقية، فإننا نحن والألمان الغربيون، نعتبر أن بقاء اللاجئين المحتملين في ألمانيا الشرقية، لصالحنا على المدى البعيد". كان المعنى الضمني هو أن أزمة اللاجئين تزعزع استقرار ألمانيا الشرقية، وإذا بقي المواطنون الشرقيون في مكانهم، فإن هذا قد يخفف الضغط السوفييتي على برلين الغربية التي "لا نريد خسارة الوصول إليها"، باعتبار المدينة تتموضع كجزيرة وسط ألمانيا الشرقية.

بعد إقامة الجدار، وعلى مدى ثلاثة عقود، باع الساسةُ الأميركيون والألمان والأوروبيون الكثير من الكلام للشعب الألماني على الضفتين الشرقية والغربية

أكثر من ذلك، أقرّ طومسون، في رسالة لاحقة، بأن إجراء ألمانيا الشرقية الأحادي الجانب، سيكون له "مزايا كثيرة بالنسبة لنا، من خلال إظهار نقاط الضعف في الموقف السوفييتي والألماني الشرقي". وسينصح بعدم إعطاء أي انطباع بأن واشنطن ستتخذ "إجراءات مضادة قوية، إزاء إغلاق ألمانيا الديمقراطية الباب". ليصل ختاماً إلى الاستنتاج بأن "هذا سوف يجنبنا التهديدات السوفييتية المحتملة".

وجهة النظر المدهشة هذه من طومسون وراسك، من بين أمور أخرى، هي واحدة من عدد من النقاط المثيرة في الوثائق التي رفعت عنها السرية. فبعد إقامة الجدار، وعلى مدى ثلاثة عقود، باع الساسةُ الأميركيون والألمان والأوروبيون الكثير من الكلام للشعب الألماني على الضفتين الشرقية والغربية، وأبدوا دائماً مواقف أخلاقية حاسمة ضد الجدار الذي بناه الشيوعيون المستبدون. على سوداوية ما جاء في تلك الوثائق، فبعد أكثر من ربع قرن، سوف يأتي ما هو أدهى. إنه الموقف من هدم الجدار عام 1989، ومن فكرة توحيد ألمانيا ذاتها، وهو ما سوف أتوقف عنده لاحقاً.

كانت مأساة الألمان وخصوصاً اللاجئين ضعيفة البروز في جميع الوثائق المفرج عنها، ورغم كل الخطابات الأخلاقية، لم تكن إطلاقاً ولا للحظة واحدة، أولوية أميركية. بحسب الوثائق كان التركيز غالباً على "رسم خط بين ما هو حيوي لمصالحنا، وما هو مهم ولكنه لا يستحق المخاطرة. الحيوي هو الوجود الغربي في برلين الغربية، ووصولنا المادي إلى المدينة". نعم، كان هذا هو الحيوي والأهم، بحسب وثيقة تلخّص ما ذكره دين راسك وزير الخارجية الأميركي، أثناء لقائه مع سفراء ودبلوماسيين أميركيين في باريس عام 1961، أما مأساة المواطنين الألمان فبدت في كل الوثائق مجرّد عرَض جانبي.