ثارات الشبّيحة

عناصر من شبيحة نظام الأسد

2020.02.16 | 23:01 دمشق

احتل جدوع المحمد العيساوي صدر قاعة منتدى نقابة المحامين في حي السبيل الراقي بحلب، وتوافد مسؤولو المدينة لتعزيته واحتضانه. المحافظ وأمين فرع البعث وأمناء الشعب الحزبية والمحامي العام والمفتي ورؤساء المنظمات الشعبية والنقابات المهنية وعدد من القضاة وزملاؤه المحامون. كيف لا وهو والد شبان ثلاثة سقطوا معاً بالأمس وهم يقاتلون في صفوف النظام.

لكن المجازات تخدع. خالد فقط هو ابن جدوع، أما مصطفى وموسى فابنا شقيقه المتوفى الذي تولى المحامي تنشئة أولاده. ولما قرر المحامي أن يزجّ بأبنائه الثلاثة في أتون الحرب أمر أبناء أخيه، الثلاثة أيضاً، أن يفعلوا مثلهم كذلك، وصار يفخر أن ستة من «أولاده» يقاتلون فداء للوطن ورئيسه.

ينحدر جدوع من بلدة البرقوم بريف حلب الجنوبي. وقد اقتحمها النظام يوم الأحد، التاسع من شباط الجاري، قبل يومين فقط من مصرع الثلاثة بمفخخة، بعد نصف ساعة من تصويرهم فيديو يُبرزون فيه سيطرتهم على طريق حلب دمشق الدولي.

لم يحتفل الأبناء جدياً بدخول قرية أجدادهم، ما داموا قد نشؤوا في حلب، في حي المغاير الذي كان يسكنه المحامي قبل أن يغادره خوفاً من شبهات الثوار التي حامت حوله بعد أن قضى بينهم حوالي عام.

ولد جدوع سنة 1968 لأسرة من عشيرة صغيرة هي البوعيسى، تنسب نفسها إلى قيس بن مضر بن نزار، وتلاقي في النسب عائلة شهيرة في حلب وريفها هي آل بري الذين يصرون كذلك على أنهم من «جيس». دون أن تتماثل البوعيسى مع المسار التشبيحي العام لبري، فقد ظهر فيها ثوار عديدون، لم يكن المحامي منهم.

في الخامسة عشرة انتسب جدوع إلى حزب البعث، لينال عضويته العاملة بعد سنوات. ويدرس الحقوق في جامعة حلب ويتخرج في 1994. ثم ليقضي سنتَي خدمته العسكرية محققاً في إدارة المخابرات الجوية، وهو ما يستبعد أن يكون صدفة. ويسجّل في نقابة المحامين بعد التسريح دون أن يحقق نجاحاً. ليتفرغ لأعمال وظيفية وحزبية، عضواً لمجلس المدينة ثم لمكتبه التنفيذي، وعضو قيادة فرقة بعثية، ثم أميناً لها، حتى دخل الجيش الحر حلب فجأة في منتصف 2012 وسيطر على شطرها، بما فيه حيّه.

طيلة ما يزيد عن سنة ظل المحامي في القطاع المحرّر من حلب، عرف الثوار وخبر قصف النظام لكنه لم يغيّر قناعاته، فهو «أبو محمود الصقر» كما يصف نفسه، ولن يفقد إيمانه بالحزب والقائد. استدعي للتحقيق مرتين على خلفية الاشتباه بممارسته نشاطاً موالياً سرياً، وبعدما خرج سالماً من بين أيدي قضاته الشرعيين المستجدين في المرة الثانية، قرر أن الوقت قد حان لمغادرة مناطق سيطرة المعارضة.

في تلك السنوات كان الحلبيون الأعرق من الطبقة الوسطى والعليا ينسلّون من المدينة التي أضحت خطرة وانهارت خدماتها الأساسية، وكانوا يبحثون عن عائلة مؤتمنة ليسكنوها في منازلهم الخاوية التي كانت عرضة لاستيلاء الشبيحة، وقد كانوا في أوج سطوتهم في الشطر الغربي للمدينة الذي يسيطر عليه النظام. وهكذا كان من نصيب جدوع مكتب في وسط البلد ومنزل واسع في أحد الأحياء الغنية، تولاهما من مالكتهما الزميلة التي كانت تتجهز للسفر.

صارت حياته أفضل مما كانت عليه في منزله الفقير في حيه الشعبي، إلا أن جدوع عدّ نفسه «مهجّراً» وقرر أن يدفع بكل قواه في سبيل الانتقام من «المسلحين»، بمن فيهم من أقارب لصيقين وأبناء عمومة. فاستدعى أولاده المجازيين من الشطر الشرقي لحلب، ودفع بالستة، كما سبق القول، ثلاثة من أولاده وثلاثة من أبناء أخيه، في قوات النظام. سواء كمجندين في الجيش النظامي أو متطوعين في الفصائل المسمّاة «رديفة»، أو تنويعاً وتنقلاً بينهما أتاحه اختلال بنية النظام العسكرية وحاجته لأي مقاتل. فعلى سبيل المثال بدأ «الشهداء» الثلاثة مسيرتهم في مجموعة الحاج ناصر كنّو من «كتائب البعث» المنظمة حزبياً، ثم تحولت تابعيتهم إلى الفرقة الرابعة، وعندما قُتلوا نعتهم قوات النمر التابعة للمخابرات الجوية.

تلقي هذه السيرة الضوء على أمرين مهمين؛ الأول هو التركيبة العامة لمن يُطلق عليهم في العادة وصف «شبيحة حلب»، أي المقاتلين في صفوف الميليشيات الموازية. فقد غلب على هؤلاء أن يكونوا أبناء عشائر من أصول ريفية تقطن في أطراف المدينة أو أحيائها الشعبية أو مناطق المخالفات. أما الحلبيون الأغنياء والميسورون، الصناعيون والتجار وحواشيهم من جماعة «الله يطفيها بنوره»، فقد مالوا إلى تأييد بقاء النظام دون التضحية لأجله عملياً. فهرّبت العائلات ذكورها إلى أوروبا أو تركيا تجنباً للانخراط في الجيش، وظل الأبوان في بيئتهما المعتادة، ليحرسا الجذور ويحافظا على الممتلكات ويتشكيّا من سوء الخدمة.

الأمر الثاني الذي تحيل إليه السيرة يتجلى في صورة لخالد، الابن الحقيقي الذي قتل مع ابني عمه مؤخراً. وتُظهره على باب منزل والده، لأول مرة بعد أعوام، إثر سيطرة النظام على الشطر الشرقي لحلب نهاية 2016، وكان مع القوات الداخلة.

تنبه الصورة إلى معضلة كبيرة واجهت قوى الثورة، هي مسألة مؤيدي النظام في المناطق التي سيطرت عليها. وتراوح التعامل معهم بين الإغضاء طالما لم يرتكبوا جرماً، فبقي الكثير منهم «عملاء» محتملين مستعدين لإخراج العلم الأحمر من مخبئه ورفعه في اللحظات الحرجة، وبين تهجيرهم قصداً أو نتيجة تضييق المحيط، مما أورثهم حقداً أسود غذّوه بمرارة خلال سنوات «التغريبة»، وجعل منهم مقاتلين شرسين كرأس حربة لحملة النظام التي تستهدف منطقتهم نفسها، ليعودوا إليها فاتحين مزهوين فيثأروا من قبور خصومهم ورفاتهم طالما لم يتمكنوا منهم أحياء، أو ليهددوا إخوتهم بالذات بنسف بيوتهم وملاحقتهم حتى الموت، كما رأينا في الفيديوهات.