تمرد "فاغنر" إذ يشكل قلقاً لحلفاء موسكو

2023.07.03 | 06:54 دمشق

تمرد "فاغنر" إذ يشكل قلقاً لحلفاء موسكو
+A
حجم الخط
-A

كان لتمرد ميليشيا "فاغنر"، وقع الصاعقة في الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى والقوقاز، وهي المناطق التي خضعت للسيطرة الروسية منذ نحو قرنين، وظلت مواطن النفوذ الرئيسية لروسيا الاتحادية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وكان جزء من هذا النفوذ منبعه سطوة بوتين وقدرته على اختراق تلك الدول بأساليب متعددة بحسب ما نشرت مجلة Foreign Policy  الأميركية منذ يومين.

لذا ستكون للأحداث التي جرت الجمعة 23 حزيران، أصداء خارج روسيا أيضاً، ولكن بقوة أكبر داخل تلك الدول المجاورة، فهذه الدول عانت لقرون من هيمنة الجيش الروسي وتخشى قوته، وكانت تابعة اقتصاديا بسبب حاجتها الماسة للنفط والغاز الروسي، ولكن هذه القوة تبين أنها أقل شدة مما توقعته هذه الدول وتحديداً بعد الحرب الأوكرانية.

فقبل "تمرد فاغنر"، أدى هجوم بوتين المدمر على أوكرانيا إلى فرض بعض تدابير إعادة تقييم نيّاتِ روسيا وقوّتها، وذلك داخل دول مثل أرمينيا وأذربيجان وكازاخستان ومولدوفا وأوزبكستان وغيرها، ومعظمُ هذه الدول لن تؤيد الغزو الروسي لأوكرانيا حتى ولو على استحياء، كما حاولت المحافظة على علاقتها مع الغرب، وضمن ذلك مساعٍ لتصدير الطاقة بعيداً عن السياق الروسي.

وإذا كانت الحرب قد كشفت نقاط الضعف في الجيش الروسي وفي إمكانية الاعتماد على روسيا كحليف، فإن التمرد كشف عن نقاط ضعف تخص بوتين نفسه، كذلك فإن أحداث الأيام الماضية جاءت كتنبيه مفاجئ بطبيعة السلطة الشخصية المغلقة في نظام بوتين، كما مثلت ضربةً قوية لتلك السلطة في الوقت ذاته.

تُعَدُّ السلطة شخصيةً وقائمة على الأداء بشدة في هذه المنظومة، ما يعني أن أي استعراض واضح للقوة بواسطة طرف آخر داخل المجتمع الروسي سيقوض تأثير تلك السلطة

ومن المؤكد أن خطاب بوتين المقتضب على نحوٍ غير متوقع عقب أحداث التمرد الفاشل، لن يغير واقع الأمور، لأن الضرر قد وقع بالفعل. بينما جاء بيان الفيديو الخاص ببريغوجين في اليوم نفسه ليؤكد وجود طرف آخر على المسرح الذي كان من المفترض أن يستقبل عرضاً منفرداً لبوتين.

إذ تُعَدُّ السلطة شخصيةً وقائمة على الأداء بشدة في هذه المنظومة، ما يعني أن أي استعراض واضح للقوة بواسطة طرف آخر داخل المجتمع الروسي سيقوض تأثير تلك السلطة، وخاصة أن الأمر لم تنته فصوله بعد.

وليست تساؤلات الموجودين في محيط روسيا مُلحةً بقدر تساؤلات النخبة الأولغيارشية داخل روسيا التي تحاول الإلمام بديناميات السلطة المتغيرة داخل بلادها. بينما يجب ألا يجري توقع لتغييرات درامية على المدى القصير في السياسة الخارجية لجيران روسيا، سواء في دول آسيا الوسطى أو دول جنوب القوقاز. في حين يرجع السبب جزئياً إلى أن التركيز على الدور الجيوسياسي لروسيا يُغفل حقيقة السياسات الشخصية، باعتبارها الأساس الذي اعتمدت عليه علاقات العديد من تلك الدول مع روسيا في عهد بوتين.

وبطبيعة الحال لا يمكن إغفال أن بوتين اعتمد سياسة خارجية تقوم على مجاراة قادة تلك الدول، على الرغم من أنه لم يكن قريباً منهم على المستوى الشخصي مطلقاً. لكنه صاغ سياسة خارجية تقدم دعماً متبادلاً -وإن كان غير متكافئ- لأنظمة قمعية معجونة بالفساد ترتبط بالوقت نفسه بمصالح اقتصادية مع دول أخرى.

والمؤكد أن واشنطن وخلال مراقبتها لسير الأمور وعواقبها المحتملة بين الدولة المتوحشة والميليشيات المرتزقة، كان تركيزها الأبرز على إمكانية أن تقوم بكين بملء أي فراغ متوقع في دول آسيا الوسطى والقوقاز، على افتراض أن انتكاسة بوتين الأخيرة تفتح المجال أمام الصين، سواء في وسط آسيا أو غيرها من المناطق.

لكن النظرة الشديدة الدقة للسياسات الإقليمية قد تُسفر عن إعداد تحليلات منقوصة في هذا الصدد. فأولاً، تُعتبر الصين قوة عالمية بالفعل ولديها علاقات اقتصادية وسياسية كبيرة مع الدول الموجودة في محيط روسيا. أما السبب الآخر الذي يرجح استقبال انتكاسة بوتين بمشاعر متضاربة في بكين، فهو أن الرئيس الصيني شي جين بينغ أحد أبرز المراهنين على بقاء قوة بوتين وسطوته الإقليمية والأوروبية، وسيكون من المستحيل تعديل هذا الرهان بسهولة، بغض النظر عن تقييم الصين لمدى صوابية رهانه.

لذا فإن أي ضعف سيصاب به بوتين سيؤدي إلى مشكلة في توازنات التحالف الصيني-الروسي، خاصةً إذا أدى ذلك الضعف إلى زعزعة استقرار الدولة المركزية في روسيا. وعلى الرغم من كل الخلافات الحاصلة بين الجانبين على مقاربة ملفات محددة، فإن القيادة الصينية لا تحبذ لروسيا أن تنكشف سياسياً وأمنياً أمام العالم نظراً لخطورة إعادة بناء نظام استبدادي مركزي يعتمد على السلطة الشخصية كما هو حاصل في روسيا منذ عقود.

كما أن الدول المحاذية لروسيا هي الوحيدة التي ستحاول فهم تفاصيل حادثة التمرد خلال المرحلة المقبلة، على الرغم من تسخيف بعض المسؤولين الغربيين لأي فكرة تتحدث عن وجود تصدعات في سلطة بوتين البنيوية، أو أن نظامه قد ينهار.

صورة الضعف الأبرز التي أخافت الأنظمة المجاورة لروسيا هو اعتبار مسؤولين روس أن فاغنر لا تزال تُشكل حاجة لروسيا في حربها في أوكرانيا، وكذلك في مساعيها للحفاظ على الأدوار العسكرية التي تقدمها لموسكو كقوة غير شرعية

لكن الحقيقة الثابتة أن هذا التمرد أظهر بوتين في مظهر ضعيف ومهزوز وقدم نظامه السياسي في حالة هشة وغير متماسكة وخاصة في ظل سياسة التسريح الجارية والإعفاءات التي طالت مسؤولين أمنيين وعسكريين روساً منذ اندلاع الحرب مع كييف، لذا سيعكف المسؤولون في أوروبا والولايات المتحدة والدول المحيطة بروسيا على دراسة السيناريوهات المحتملة لتعثر سيطرة بوتين على ميليشيا خدمت التوحش الروسي في أقطار متعددة.

وصورة الضعف الأبرز التي أخافت الأنظمة المجاورة لروسيا هو اعتبار مسؤولين روس أن فاغنر لا تزال تُشكل حاجة لروسيا في حربها في أوكرانيا، وكذلك في مساعيها للحفاظ على الأدوار العسكرية التي تقدمها لموسكو كقوة غير شرعية، ما يظهر عدم القدرة "البوتينية" على إغلاق هذا الكتاب المخيف، على اعتبار أن فاغنر هي يد النظام الروسي في تنفيذ الأعمال القتالية في حروب الوكالة والتي ظهرت في سوريا وليبيا والسودان، والتي لا يريد بوتين إظهار انخراط مباشر فيها، كذلك فإن بقاء المجموعة فاعلة في التأثير في هذه البلدان سيتوقف أيضا على قدرة بوتين في القيام بعملية تغيير الانتماء من قائدها السابق، وجعلها مرتبطة بشكل كامل بقرارات الجيش الروسي.

وعليه يمكن الاستفادة مما كتبه الباحث المقيم في معهد كارنيغي الأميركي دانيال بير بأن أحداث الأيام القليلة الماضية تأتي كتذكرةٍ بالدرس القائل إن جميع الأنظمة الاستبدادية تبقى مستقرة إلى أن تفقد استقرارها على حين غرة. ولم تكن أحداث الأسبوع الماضي في روسيا ثورةً أو حرباً أهلية كما أشار بعضهم، بل ما يزال الوقت مبكراً للغاية على معرفة أثرها النهائي، سواء في روسيا أو داخل المنطقة وخارجها.