تكريم بعثي للفنانين المتقاعدين!

2024.02.09 | 06:57 دمشق

 تكريم بعثي للفنانين المتقاعدين!
+A
حجم الخط
-A

قد يستنكر بعض القراء العنوان، فالنظام الحاكم في سوريا لم يكن بعثياً، وقد اتفقنا من غير وثائق وشهود، أو عقود وقيود؛ أنَّ البعث شعار وقناع، وكان كاتب سيرة الأسد باتريك سيل منافقًا ماكرًا وهو يدهن سيرة الأسد بزبدة المديح، فزعم أنّ الأسد وزع سلطات المحافظات بالتساوي-كأسنان الكلب -بين ثلاث قيادات: أمنية هي المخابرات، وإدارية هي المحافظ، وحزبية هي البعث!

وتجدر الإشارة إلى الفرق الكبير بين البعثين؛ السوري والعراقي، فقد كان صدام يُحسن إكرام الموالين من قياداته وشعبه بالمال والأثاث والرياش، وكان يهوى الزيارات الشعبية، ويزور عائلة عراقية كل يوم تقريبًا، وتُبث في التلفزيون، مسجلة أو على الهواء. ولم يكن حافظ الأسد ولا وريثه بشار الأسد من هذا الخلق بقريب، فلم يعرف عنهما تكريم المتفوقين من أبناء الشعب بالمال والعطايا، أما زيارة أبناء الشعب، واستزارتهم فكانت حلمًا سوريًا لا يطال، فسوريا كانت مستعمرة عقاب، وإنّ أكبر جائزة يغنمها المتقرب إلى النظام أو المبرز من أبناء الشعب هو لقاء مع السيد الرئيس، ولم يكن الأسد يمتنُّ بصورته التذكارية على جميع من يلتقيهم من المكرمين، وذكر الكاتب الدرامي هاني السعدي أنَّ الأسد مدحه مرة مدحًا، ولم نرَ له صورة معه، ونحن في عصر الصورة.

يروي رائد الفضاء المعروف محمد فارس بمرارة، ورواد الفضاء في الديار العربية قلّة، يعدون على أصابع اليد الواحدة، أنَّ من قلَّده ميدالية التكريم كان أحد حراس الشرف في القصر الجمهوري على الباب وهو يغادر القصر من لقاء جمعهم مع زيارة إحدى وكالات الفضاء العالمية!

وجدت شهادة من أمثال الشهادات التي نالها الفنانون المتقاعدون من لدن نقابة الفنانين على طاولة في بيت صحفي متقاعد، فذكر لي مستصغرًا من شأنها أنه نالها من صحيفته وأرسلت له مع أحد زملائه!

يقول ابن خلدون إنَّ الملك لا يكون إلا بالمال والجند، وقد كان للأسد جند مخلصون، لكنه كان ضنينًا بالمال، وتتبعت شاعرًا حمويًا مدح الأسد في أوائل التسعينيات بقصيدة عصماء، في أحد الأعياد الوطنية، وسألتُ معارفه عن جائزته، فقيل لي: سمعه الأسد بنفسه، وهذه جائزة، ونشرت قصيدته في الصفحة الأولى من الصحيفة الرسمية جائزة، وربما حظي بجائزة ثالثة مثل رخصة إسمنت وحديد لرفع عواميد على سقف بيته، ويُستبعد أن ينال إجازة لزيارة قريب معتقل إن كان له، وكان لكل حموي قريب معتقل.

وجدت شهادة من أمثال الشهادات التي نالها الفنانون المتقاعدون من لدن نقابة الفنانين على طاولة في بيت صحفي متقاعد، فذكر لي مستصغرًا من شأنها أنه نالها من صحيفته وأرسلت له مع أحد زملائه!

قرأت مرة مقالًا لصحفي سوري في صحيفة الأخبار اللبنانية يسخر من داعش، وكان يظنُّ نفسه شجاعًا بكتابتها، ويهزأ من الملوك العرب السالفين الذين كان واحدهم يقول لسيافه: أيها الحرسي املأ فمه ذهبًا، أو أيها الحرسي اقطع رأسه. لم نرَ الأسد يملأ فم أحدهم ذهبًا قط، لأنه زعيم جمهوري اشتراكي، أما قطع الرؤوس فكان بالجملة في المعتقلات السرية.

ويعلم الكافة أنَّ دول الخليج تكرم العلماء والمبدعين والفنانين بالجوائز والعطايا، ومؤخرًا تحولت الإقامة الذهبية في دولة خليجية إلى تكريم بعد أن فسدت الحياة في كبريات العواصم العربية. ولم تكن أكبر الجوائز السورية تجاوز مئة ألف ليرة سورية قبل تضخم بالونة الليرة السورية، أمّا جوائز الشباب، فكانت ثلاثة آلاف ليرة (أربعون دولارًا) وأحيانًا تكون كتبًا كاسدة في مخازن المراكز الثقافية، وسوريا بلد غني وما يزال غنيًا بالنفط والقمح والقطن وحاليا الكبتاغون.

لقد كانت أكبر جائزة ينالها السوري هي الإعفاء من مضايقات الأمن السوري، وإزالة الريبة في ولائه للنظام، والسلامة من العقاب المحتمل، وقد تكون الجائزة إخفاء ملف وإهماله، مثل ملف ابن عبد الحليم خدام في قضية دفن النفايات النووية، أو تقديم دور المنتظر في سلك انتظار التسجيل على شقة سكنية في الادخار السكني، أما الصورة مع الرئيس فهي تعويذة سحرية لا تطال، تنجي المواطن من المهالك وتعبر به أوعر المسالك.

مناسبة هذا القول، هو معجزة تكريم فنانين متقاعدين في نقابة الفنانين، أمام جمهور هم غالبًا من أقارب الفنانين وجيرانهم، ومنحهم شهادات تكريم قبل الإقامة الذهبية في الدحداح، كما قال أحد المكرمين، ويظهر من خلال مقابلاتهم فرحهم بالاجتماع والجائزة المعنوية، فقد كان العزل من غير كورونا عقوبة سورية شاملة وعامة.

لقد استطاع نقيب الفنانين الباسل محسن غازي جمع الفنانين المتقاعدين، محققًا رغبتهم الأخيرة قبل الدحداح، من غير طعام أو شراب، وكانوا سعداء جدًا، بجائزة مسك الختام

أقيم حاليًا فوق نادٍ ألماني، وأستمتع مجانًا بأمتعتهم وناديهم وحديقتهم، وإن رسم الاشتراك بخس، خمسة يوروات لا غير، يستطيع العضو أن يتمتع بآلات النادي الرياضية، وأن يجتمع معهم في الأعياد، وأن يشوي مع أصدقائه لحمًا إن رغب، أو أن يخيّم في الحديقة الكبيرة. وكنت عضوًا في نقابة سورية هي نقابة المهندسين، أدفع الاشتراكات كرها، وتردني مجلة أقذفها في القمامة قذفًا، وبقيت عشرين سنة عضوًا فيها من غير أن أزور نقابتي أو أعرف أين مقرها ومستودعها، أو أغنم منها بغنيمة صغيرة.

لقد استطاع نقيب الفنانين الباسل محسن غازي جمع الفنانين المتقاعدين، محققًا رغبتهم الأخيرة قبل الدحداح، من غير طعام أو شراب، وكانوا سعداء جدًا، بجائزة مسك الختام.

قال معاوية لابن الأشعث بن قيس: ما كان قيس بن معد يكرب (ملك كندة) أعطى الأعشى? فقال: أعطاه مالاً، وظهراً، ورقيقاً، وأشياء أنسيتها، فقال معاوية: لكن ما أعطاكم الأعشى لا ينسى.

قد نختلف حول عطاء هؤلاء الفنانين لسوريا، لكن ما أعطاه الأسد لنا ولهم ولأحفادنا وأحفادهم لا ينسى أيضًا!