تفتيت المفتَّت.. البنى الاجتماعية السورية والجماعات الجهادية

2022.02.26 | 05:29 دمشق

18f493bf-cc5c-4832-acf9-e38b5768926e.jpg
+A
حجم الخط
-A

شهد التاريخ البشري ألواناً من صراع البنى الاجتماعية، والطبقات في سياقات تاريخية مختلفة مثل: صراع العبيد والأسياد في مجتمعات الرقيق، وصراع الطبقة الثالثة وطبقة النبلاء إبان الثورة الفرنسية، وصراع العمال وأصحاب العمل في المجتمع الرأسمالي الحديث، وصراع الرجل والمرأة في المجتمعات الأبوية التراتبية، والفصل بين المستوطنين والسكان الأصليين في المستعمرات، والانقسام بين بلاد الشمال وبلاد الجنوب. وليس من السهل دائماً الانتماء إلى فئة بعينها. وقيل في توصيف المجتمع الصناعي إنه حصيلة طبقة العمال الذين يدفعون الضرائب، وطبقة النبلاء المستهلكين للضرائب، أما في عصر اقتصاد الذكاء الصناعي فثمة محاولات لإنشاء مجتمعات الزبون بدلاً من مجتمعات المواطن.
أما الجماعات الجهادية السلفية فتنشغل في محاربة الآخر بصفته عدواً، وتحاول في الوقت نفسه تغيير بنى المجتمع الذي تسيطر عليه مما قد يطيل عمر بقائها، إذ تستنبت مناصرين يؤمنون بها. ويغمض هذا النوع من السلفية، بصفته بنية عابرة للقوميات، عيونه عن كل ما سبق وتحولاته لإعادة التاريخ إلى الوراء، من خلال الحرص على تفتيت مفاهيم القومية والدولة، والمنظمة والعشيرة والمؤسسة، لتستبدلها بمسميات وبنى جديدة تخدم مراماتها.
أدركت تلك الجماعات مبكراً أن صنع تحالف قوي يتطلب وجود عدو مطلق، وهذا العدو هو الآخر: أفراداً ومجتمعات ودولاً. وعوَّلتْ كثيراً على هذا "الغِراء" العدو/ الآخر لتبقى المجموعة المحيطة بها مترابطة، مستفيدة من تجربة دكتاتوريي الشرق الأوسط الذين أبقوا جماهيرهم فترة طويلة تحلم بـ "استعادة فلسطين"، والنظام السوري وإيران وحزب الله، والهدف الرئيس كان إلهاء الجماهير خلف قضية كبرى لتوطيد استبدادهم وتغولهم في اقتصاد البلدان التي يحكمونها.

اتكأت هذه السلفية في حكمها للمناطق، التي تقع تحت سيطرتها في سوريا على مبادئ رئيسية هي: الحاكمية، والولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد

وتتبنى تلك الجامعات فكرة الجهاد المسلح، بصفته واجباً على المسلمين "المؤمنين بخياراتها وفهمها للإسلام"، ضد الآخر (المسلم أو غير المسلم) وقد مثَّلها في سوريا خلال عقد ثورة 2011: النصرة وداعش على ما بينهما من اختلاف في التفاصيل، وعلى الرغم من محاولات النصرة لتبديل مسمياتها وقشور سلوكاتها.
وقد اتكأت هذه السلفية في حكمها للمناطق، التي تقع تحت سيطرتها في سوريا على مبادئ رئيسية هي: الحاكمية، والولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد. مع حرصها الشديد على تأكيد حدود الأبيض والأسود، من وجهة نظرها، ومحاولة صنع "نظام أخلاقي"، يرتبط بفهمها المحدود والقاصر للدين الإسلامي، ومحاولة إظهار تفوق المنتمي إليها، ولعلَّ أحد عوامل تأثير السلفية بالأفراد يكمن في التواشج، الذي تعتقده "الذات السلفية" بقدرتها على الفعل، وتمكينها وإشعارها بالتفوق ونفخها، مع الحرص على إبراز "طهرانية" النقاء الذي تبحث عنه تلك الذوات المتوهمة، الذي يظهر في الشبيه وليس في المختلف.
اتبعت تلك الجماعات من خلال داعش أو النصرة عدداً من الإجراءات تجاه المجتمعات المحلية السورية التي سيطرت عليها لتوطيد أركانها، واستحضرت على المستوى الإداري عدداً من المصطلحات القديمة، وألبستها دلالات جديدة في محاولة للمزج بين المعاصرة والتراث، فأصبح لديها "دواوين" ووزارات لكل من: الزراعة والصناعة والكهرباء والتعليم. وأبقت بعض الجوانب الإدارية القديمة على حالها مثل الشرطة ورجال الحسبة. وقامت بإلغاء العمل الحزبي والمنظماتي والنشاط العشائري، أو ضيَّقت الخناق عليه. حيث سيطرت على مناطق جغرافية تسود فيها أشكال مجتمعية تقليدية رئيسية، بعضها مستمد من مفهوم الدولة الحديثة مثل: النقابة والاتحاد، على الرغم من فسادها وإفسادها الذي حرص عليه النظام السوري. وبعضها مستمد من بنى اجتماعية تقليدية لم تستطع تذويبها تجليات الدولة الحديثة مثل: العشيرة والعائلة.
ولعل أحد أبرز الأمثلة على تعامل تلك الجماعات المتطرفة مع البنى الاجتماعية الراسخة ما قامت به داعش مع شيوخ العشائر في منطقة الفرات حيث زادت من مراقبتها لهم وضيقت الخناق عليهم، إذ عطلت أي حضور آخر غير حضورها. وسبق أن فقد عدد من هؤلاء الوجهاء الأمل بأي دعم من النظام، بعد أن زاروا، أول دخول داعش إلى أراضيهم، مركز القرار في دمشق على أمل الحصول على الدعم، توهماً منهم أن النظام معني بمحاربة داعش، وصاروا أقرب إلى الأسرى في بيوتهم بعد مرور فترة قصيرة على وجود داعش، دون أي حضور اجتماعي، وقد اقتنعوا متأخرين أن النظام لا يزعجه وجود داعش وتنكيلها وإرهابها.
وقد أفادت من أساليب النظام السوري من خلال تفعيل نظام البيعة المفروض على المواطنين هناك، وهو أقرب إلى نظام المخابرات السورية التقليدي وتجربة "قوات الدفاع الوطني" التي يطبقها النظام، وقسموا البيعة إلى بيعتيْن: بيعة مدنية براتب نحو مئة دولار، وبيعة عسكرية بنحو خمسمئة دولار، ويرافق البيعتين سلطة وخدمات لا تتوفر للمواطنين الآخرين في تلك الجغرافية من ماء وكهرباء! واختلفت استجابة الأهالي إلى تلك البيعة من قرية إلى أخرى، غير أن معظم أبناء القبائل الفاعلة رفضوا الدخول في أي من البيعتين، مما جعلها تلجأ لتوظيف الطبقات المهمشة والمسحوقة، وكذلك ذوي التاريخ الإجرامي، لصنع تكتلات موازية لفرز ولاءات مغايرة. 
وقد اتبعت تلك الجامعات لفرز الناس في الجغرافية التي تحكمها طريقتين: الأولى طريقة سريعة، حيث أخضعت السكان الراغبين في العمل العام المدني والعسكري: التدريس/ الزراعة/ الصناعة/ الرباط على الجبهات إلى دورات "استتابة" سريعة، تضمن خلالها حداً أدنى من الولاء، هي أشبه بدورات "غسيل الدماغ" السريعة.
والثانية: طريقة بطيئة، اتجهت من خلالها إلى تدريس الأطفال حتى عمر الـ 18 عاماً تدريساً إجبارياً وفق منهاج محدد، مشبع بأيديولوجيتها، يضمن ولاءهم الدائم، والحرص على إلغاء الآخر/المختلف وتكفيره، مهما كانت صلة القرابة به.

ودرجة المواطنية تتحدّد بحسب اتباع الدين "السلفي"، وحماس المؤمنين للتضحية بالذات، والولاء لشخص الخليفة/ الإمام / القائد، وتقصير الثوب وإطلاق اللحية

وضمّت إلى قطاعها العسكري عدداً من الأطفال المتحمسين، دون أن يكون لأهاليهم سلطة عليهم، في حرص منها على صناعة جيل جديد، مؤمن بأيديولوجيتها، بعيد عن المؤثرات الخارجية، ولعل هذا ما يفسر جوانب من حربها على استعمال وسائل الاتصالات الحديثة في المناطق التي تسيطر عليها والتضييق على الإعلام.
المواطنية الصالحة في جغرافية تلك الجماعات، إن لم نقل في كل سوريا حالياً، يكون عبر الالتزام بحقوق وواجبات محددة ليست بذات قيمة، ودرجة المواطنية تتحدّد بحسب اتباع الدين "السلفي"، وحماس المؤمنين للتضحية بالذات، والولاء لشخص الخليفة/ الإمام / القائد، وتقصير الثوب وإطلاق اللحية، وبتّ تواصل الفرد مع الصلات الاجتماعية التقليدية الراسخة. وترافقت حربها العقائدية ضد الآخر بالعطاء الاقتصادي للموالين لها، مستغلة الآثار النفسية للحرب على نفسية الناس، والتأثير الوحشي للفقر، ومشاعر الخوف وحرص كثيرين على أن يكونوا جزءاً من السلطة، أية سلطة. 
أعادت تلك الجماعات المتوحشة إنتاج مفاهيم الكولونيالية، لكن بلبوس إسلامي، فظاهرياً هي تساوي بين البشر لكنها تمشي على خطا الاستعمار في اختيار نماذج من المجتمع "احتذوا بدينهم/ إنسانيتهم" حذو إنسانية الكولونيالي/ المهاجر هاهنا بصفته نوعاً مثالياً يحتذى به، في حين تبقى النسبة الأكبر غارقة في إنسانيتها الأولى/ وطنيتها. وهذا استدعى التعويل على ثنائية الخير والشر/ السواد والبياض، ليصبح الانتماء إلى أحدهما ضرورة وجودية، لإثبات مقولة الباحث "كان": "الدولة لا تتحقق بصورة كاملة عندما تحميني من العنف، بل عندما تجنّدني في قواتها المسلحة"! 
في هذا السياق ستنحاز اللغة للأقوى، إذ تخسر الجماعة الأصلية لغتها لمصلحة استعمال لغة "السيد"، كنوع آخر من العبودية "اللغوية هاهنا" ويصبح فرض لغة "السيد" على العبد جزءاً من التضحية بالثقافة الأصلية للمنطقة. خاصة أن ديالكتيك السيد/ العبد صراع حتى الموت، مما يولد لغة مشتركة تعتمد على مصطلحات: المارق، الصح والخطأ، الاستتابة، والانغلاق.
يمكن أن نستذكر ثنائية الأسود/ الأبيض في نظريات الصراع الوجودي، وأن الحرية حق للأبيض يمنحها لمن يشاء، ويحقق، في سياق داعش مثلاً، "المهاجر" يمنح القوة والمنعة للعبيد الآخرين (أبناء المجتمع) أو يمنعها عنهم، وإذا تطور ابن المجتمع الأصلي وأصبح من الأنصار، وفقاً للغة داعش، أو من الأخوة بلغة النصرة، فإن عالم الحرية المتاح أمامه يكمن في علاقته مع الأبيض/ المهاجر، بصفته كائناً نال قداسة الهجرة إلى أرض "الدولة الإسلامية" وترك مغريات الآخر/ الكافر، ومن جهة أخرى يكمن وجود المهاجر بقدرته على استرقاق "عامة المسلمين" بصفتهم مدنَّسين بماضيهم، الذي لم يستطيعوا الفكاك منه.
وهذه الآلية من التفكير العدمي تجد صدى إيجابياً عند أفراد كثيرين من مجتمعنا السوري اللاجئ، يستمتعون بفرض "جزية دائمة من القطيعة والإلغاء" على من فكر مرة خارج صندوق البنى الاجتماعية الراسخة، أو أبدى الرغبة بمشاركتهم تفاصيل من مشهد الليل السوري الطويل