تعالوا نعاقب "السويداء" على فعلتها

2023.10.05 | 06:07 دمشق

تعالوا نعاقب "السويداء" على فعلتها
+A
حجم الخط
-A

لن يقول أحد من متصدري المشهد السياسي السوري اليوم، بأن السويداء فعلت ما تفعله، كحركة يمكن أن تشكّل حالة نهوض سوري جديد.لكنها  بفعلتها تلك إنما تخرِّب المخططات التي اشتغل عليها الضامنون برضا دولي لسنوات، فقد تداعى أغلبية أولئك المتصدرين وإن دون إعلان صريح، لتلفيق التهم لتحركها وخروجها عن الحالة القطيعية، لتخترق المشهد بهدوء بدايةً، ثم لتتصدره مع مرور الوقت، وتدفع إلى الصف الثاني وطنياً، بكل من ارتضوا حراسة الموت السريري لسوريا الأسد وسوريا المعارضة. تلك المعارضة التي قدمت في السنوات الأخيرة نسخة مشابهة بل وركيكة عن النظام. وإلا فماذا يعني أن أحداً لم يعد يتحرك في المناطق (المحررة) لمناصرة حراك السويداء؟

في كل محطة من محطات التنازل عن حق السوريين في إقامة دولة طبيعية ليس أكثر، كانت هناك بعض الانسحابات الشخصية، من الأجسام السياسية والعسكرية احتجاجاً. حتى وصلنا إلى اليوم، حيث لم يتبقَّ في تلك الواجهات إلا من يمتلك جاهزية عالية، وقابلية غير مشكوك فيها، بقدرته على السير بقتل ما تبقى من روح الثورة السورية، وقتل أي أمل لدى السوريين بتغيير قادم في سوريا. للمفارقة، نلاحظ جميعاً في السنوات الأخيرة أن التجمعات والمظاهرات التي تخرج في الشمال السوري قد تحولت إلى ظواهر فولكلورية، تُغنّى بها أغنيات من تراث الثورة، وتتردد خلالها هتافات الثورة في البدايات، التي لم يعد لها أي معنى حقيقي حالياً. فهي خالية من أي طرحٍ جديد يقول للمراقبين والمتابعين، بأن هناك حراكاً يحمل أهدافاً تناسب تطورات الوضع السوري. إنها تظاهراتٌ ميّتة مهما بلغت أعداد المشاركين بها، عندما لا تستحضر سوى صورة باهتةً عن الإفلاس والاجترار.

بعد أن اختلفت الأجندات لتغدو بمعظمها تمثيلاً للضامنين والداعمين، اختفى أي صوت يغرّد خارج القطيع، وحين يوجد في أحيان قليلة، فمصيره الاعتقال أو القتل أو التهديد بأحدهما

قتلت سلطات الأمر الواقع خلال السنوات الماضية، كل أمل لدى الشباب في مناطقها. الأمل باجتراح طرق جديدة للتعبير عن أنفسهم وعن أرائهم ومواقفهم، وأجهضت العديد من المحاولات لخلق تجمعات خارج أطرها، بما يمثل مواكبة للتطورات السياسية والعسكرية. فبعد أن اختلفت الأجندات لتغدو بمعظمها تمثيلاً للضامنين والداعمين، اختفى أي صوت يغرّد خارج القطيع، وحين يوجد في أحيان قليلة، فمصيره الاعتقال أو القتل أو التهديد بأحدهما، بما يذكر بممارسات نظام الأسد خلال العقود الماضية.

هل تذكرون شعار الموالين للأسد في السنة الأولى والثانية للثورة، حين لم يكن يكفيهم قتل المتظاهرين، وأرادوا من الأسد تدمير وإبادة حواضنهم، وحراثة مدنهم وقراهم؟ إنه الشعار الشهير "بشار للعيادة، ماهر للقيادة"، حيث اعتبروا أن رئيسهم ليّناً، ولن يجيد الرد الذي يأملون أن يكون إباديّاً، وهو ما سوف يجيده الأخ الأشرس، حسب اعتقادهم، ماهر الأسد. قريباً سنجد أصواتاً مشابهة تطالب الأسد بالحسم العسكري مع (الخونة الدروز الانفصاليين المرتبطين بالخارج). وكما نلاحظ فإن بعض التمهيدات النظرية قد بدأت عبر توجيه مثل تلك التهم الملفقة للحراك في السويداء.

مع ذلك ليس هناك تحرك سوري في باقي المناطق يظهر حقيقة الواقع، بأن معظم سوريا ناقمة على نظام الأسد لما أوصل البلد إليه من دمار وفقر وجوع. وإن كان مفهوماً حال الاستعصاء في مناطق سيطرة الأسد وميليشياته، وخوف الناس من البطش العاري هناك، فإنه أمر مخزٍ أن لا نرى أية مناصرة في المناطق الخارجة عن سيطرته. يبدو لي أحياناً، كأن هناك قرارا خفيّا بإظهار حراك السويداء على أنه ثورة مدينة (طائفة) وحيدة لها مطالب خاصة، رغم أن شعاراتها المرفوعة هي سوريّة خالصة، إضافة إلى أنها لا تحتوي على أية شطحات غير واقعية. فلماذا يجري الأمر على هذا النحو، ليبدو أن السوريين يعاقبون المدينة التي اخترقت جدار الصمت؟ السويداء إنما استطاعت فعل ما فعلته من بين كل مناطق سيطرة النظام، لخصوصية حالتها، ولتمردها الدائم، الذي حاول الأسد مراعاته منذ عام 2011، وليس لأي سبب آخر، كما يتهمها الكّذَبة، بمن فيهم أولئك الذين يسميهم الأسد "المعارضة الوطنية".

طبعاً ليس عصيّاً على الإدراك ما يجري رغم أنه مُستهجن. فمعسكر قوى الثورة المضادة، وأنا هنا أقصد بوضوح تام، الائتلاف ولجنة المفاوضات واللجنة الدستورية وكافة الأجسام العسكرية والحكومة المؤقتة، قد تم ترويضها خلال السنوات الأخيرة لتحرس استمرار المأساة السورية واستمرار حالة الهمود، بما يخدم أجندات الدول الضامنة وتوجهات المجتمع الدولي. ولتساعد من حيث أرادت أو لم تُرِد في بقاء نظام الأسد. كل ذلك مقابل بقاءٍ رخيص لبعض المتنفذين المتسلقين في مواقعهم، إضافة لتأمين رواتب كفاف العيش لبضعة آلاف من المقاتلين، الذين بلا حول ولا قوّة، لتأتمرَ بنادقهم بأوامر قادة هم من الصَغار بحيث يعترفون جهاراً بولائهم لجهات غير سوريّة.

هناك الآن دعوات لإسقاط الائتلاف وباقي الهياكل السياسية، ولكن كيف للسوريين أن يثقوا إن كان خلف تلك الدعوات ضمير سوري حقيقي غير تابع، سوف يمضي بهم إلى البلد الذي يأملونه

المؤسف بل والمخزي أن جميع مراحل اللعبة جرت أمامنا، حتى بدون محاولة تجميلها. تم الاتفاق على ماسُمّي (خفض التصعيد!) الذي بدا خفضاً من جانب واحد، حيث القصف ما زال يطول المناطق خارج سيطرة الأسد حتى اليوم. نتج عن الاتفاق ترحيل المقاتلين المعارضين تحت ضغط القصف إلى الشمال، ما أدى إلى تسلم النظام لمناطق عديدة من سوريا وإعادتها إلى سيطرته. سُلِّمت غوطة دمشق الشرقية والغربية وداريا، وبعدها حمص وريفها، تلتها حلب ودرعا، لتدخل قوات الأسد والميليشيات الإيرانية والقوات الروسية. وبالمقابل سيطرت قوى الأمر الواقع مناصفة بين ما سيُدعى الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام على شمال غرب سوريا. وبقيت قسد، بدعمٍ أميركي، تسيطر على الشمال الشرقي.

هناك الآن دعوات لإسقاط الائتلاف وباقي الهياكل السياسية، ولكن كيف للسوريين أن يثقوا إن كان خلف تلك الدعوات ضمير سوري حقيقي غير تابع، سوف يمضي بهم إلى البلد الذي يأملونه، أم هي مجرد رغبات ذاتية من أشخاص لا يختلفون كثيراً عن الموجودين الآن في الواجهة. أشخاص خاب أملهم من بقائهم طويلاً في الصف الثاني ويحلمون بالقفز إلى الصفوف الأولى. حقيقةً، فقد السوريون ثقتهم ليس فقط بالمؤسسات التي ادّعت تمثيلهم، ولكن بالأفراد أيضاً، وهذه كارثة يجب العمل على حلّها. ولكن كيف؟ مثلكم جميعاً، للأسف ليس لدي جواب.