icon
التغطية الحية

تشويه المعالم التاريخية في حلب.. فساد وترميم عشوائي وارتجالي

2023.12.02 | 06:59 دمشق

xcv
إدلب - خالد الخطيب
+A
حجم الخط
-A

لا تعكس عمليات إعادة التأهيل والترميم التي يروج لها النظام السوري منذ بداية العام 2017 في أحياء حلب القديمة واقع الحال، فالوسط التاريخي المشتهر بتسمية "المدينة القديمة"، والتي تحتوي على نحو 1500 منزل تاريخي ومبنى قديم وعدد من المعابد والجوامع والحمامات والأسواق، تعيش اليوم أسوأ حالاتها بعدما أصبحت ضحية عمليات الترميم العشوائي التي أفقدت كثيرا من أوابدها هويتها التاريخية وعبثت في معالمها الأصلية.

وتخفي عمليات الترميم خلفها كماً هائلات من الانتهاكات والتعديات التي تشهد تصاعداً مستمراً في ظل تواطؤ الجهات المسؤولة كمديرية المدينة القديمة التابعة لمجلس المدينة والذي تحوم حول مسؤوليه كثير من تهم الفساد، وباشتراك الأمانة السورية للتنمية التي تحاول وضع يدها على كل مقدرات المكان، عابثة بهويته وملكيته وبصمته التاريخية.

تشويه المعالم التاريخية في حلب

يسود الجدل في الأوساط المحلية المهتمة بالأوابد التاريخية والآثار بحلب، وذلك بسبب إغلاق جامع الأطروش بالمدينة القديمة وإيقاف الصلوات فيه كلياً، وتحويله من قبل المتعهد المسؤول عن عمليات الترميم لمستودع يجمع فيه المعدات الإنشائية ومواد البناء، وتُوجه للمتعهد الذي باشر قبل عام تقريباً عمليات الترميم بموجب رخصة حصل عليها من مجلس المدينة تهم بإهمال الجامع، والإضرار بأبرز معالمه، وتشويه واجهاته والمصلى، وكانت القبة البصلية من أبرز المعالم المتضررة، والتي انهارت في الفترة ما بعد الزلزال الذي ضرب حلب في 6 شباط/فبراير من العام 2023.

يقع الجامع في حي باب النيرب، وسمي الشارع الذي يمر من أمامه باسمه، وهو شارع هام يربط بين منطقة باب النيرب وحي الأزرق، ويمكن الوصول إلى الجامع بسهولة من مختلف أرجاء المدينة القديمة، والأطروش كان أول جامع تم استكماله بعد الهجوم المغولي على حلب في القرن الرابع عشر، تحت الحكم المملوكي، وتعتبر واجهته الرئيسة بمثابة عمل تشكيلي أسلوبي أساسي لمدرسة العمارة المملوكية في حلب، وتتميز واجهة الجامع بالزخارف الجميلة والأقواس المحفورة والنوافذ المزخرفة، فهو ذو شكل مربع تقريباً مع مدخل (بوابة) ومئذنة وقبة وباحة محاطة بثلاثة أروقة وقاعة  ضخمة للصلاة. وكان جامع الأطروش من بين المواقع التاريخية التي تضررت بفعل القصف والمعارك التي شهدتها المنطقة في الفترة ما بين العامين 2012 و2016 بين الفصائل المعارضة وقوات نظام الأسد.

قال مصدر مختص بالآثار في حلب (اشترط عدم الكشف عن هويته) لموقع تلفزيون سوريا، إن "جامع الأطروش تعرض للتصدع بعد زلزال السادس من شباط 2023، لكن القبة (البصلية) الفريدة من نوعها بجوار المئذنة لم تنهر وحافظت على وجودها".

ويضيف المصدر، أنه "وفي الفترة ما بعد الزلزال قام المتعهد المرمم بترقيم أحجار القبة، وهذا يعني أنه وصل إلى قناعة كاملة وتامة بأن القبة في خطر شديد لجهة سلامتها وهنا كان من المفروض أن يسرع المهندس المرمم بما يلي، تدعيم القبة مباشرة بشكل يحافظ عليها من أي خطر لاحق، وفك أحجار القبة لإعادة بنائها بالشكل الصحيح وبشكل يطابق حالتها الأصلية السابقة، وفي حال تعذر على الجهة المرممة تنفيذ تلك البنود البديهة في التعامل مع هذا الصرح التاريخي، كان من المفروض إعلام الجهة صاحبة الحق في إدارة المسجد والإشراف عليه ليتصرفوا هم بما عجز عنه هو".

وأشار المصدر إلى أن "المتعهد المسؤول عن عمليات الترميم ترك القبة وأبرز المعالم المتضررة في الجامع بدون أي محاولة لإنقاذها، وبالسرعة القصوى، قبل أن تكون ضحية الهزات الارتدادية، والتي كانت أعنفها في اليوم الـ20 من الشهر ذاته (شباط)، والتي تسببت في انهيار القبة، ولاحقاً بضياع معظم أحجارها، علماً أنها تحملت الزلزال الأول الأطول والأعنف مما يدعنا نتأكد من أن تدخل المتعهد المرمم كان عشوائيا".

فساد وسرقة للتبرعات

ويضيف المصدر "العبث بالأوابد التاريخية أصبح اليوم السمة العامة في المدينة القديمة بحلب، وعلى الجهات صاحبة الإدارة والإشراف اتخاذ خطوات جدية لمنع تشويه وضياع ما تبقى من الهوية التاريخية للمدينة القديمة بحلب، وبالأخص الجوامع التاريخية التي أوكلت عمليات الترميم في معظمها لمتعهدين غير متمرسين وليسوا على دراية هندسية بالتعامل مع المواقع الأثرية، وهؤلاء معظمهم فاسدون ويتسابقون للفوز بمثل هكذا تعهدات كي يسرقوا منها، فعمليات ترميم الجوامع والمساجد الصغيرة بالمدينة القديمة تتم من أموال المتبرعين (تجار وصناعيي حلب في الداخل والخارج)، ويتم منح التراخيص من قبل مجلس المدينة بسهولة بسبب تواطؤ مسؤولين بارزين في المجلس يتقاسمون مع المتعهد الأموال المنهوبة، فآخرُ همّ هؤلاء تراثُ حلب وتاريخها وآثارها، المهم ملء جيوبهم".

شائعات ومعلومات بالجملة يتم تداولها بين الأوساط الشعبية حول الفساد ونهب أموال التبرعات المخصصة لترميم المواقع الأثرية الإسلامية في المدينة القديمة بحلب، وبمشاركة مسؤولين معروفين في مجلس المدينة والأمانة السورية للتنمية التي باتت شريكاً في عمليات الترميم، على الأقل شراكة إِشراف فخرية تسمح لمسؤوليها التحكم بعمليات الترميم ومنح الرخص وإرسائها على مقربين ومتعهدين محسوبين عليها، كما أن لمسؤوليها ولمسؤولين في مجلس المدينة دورا في تغيير صفة بعض المواقع الأثرية، وهدمها ومن ثم العمل على استثمارها في قطاع البناء أو خدمات الترفيه.

يقول عبد الغني الأحمد (من أهالي المدينة القديمة) لموقع تلفزيون سوريا، إن هناك جرائم ترتكب بحق المواقع الأثرية، هناك ما يشبه الشراكة بين مختصين بالآثار وعدد من تجار العقارات، فالمختصون بالآثار والقوانين الناظمة لحمايتها يعلمون التجار طرق التملص من القوانين، وذلك عن طريق تكسير وتشويه بعض الأحجار القديمة على واجهات الأبنية، وإزالة أهم معالمها كي تزال عنها الصفة، ومن ثم يقومون بالهدم والترميم وتغيير معالم المكان بالكلية وتسخيره لاستخدامات تجارية".

ويطالب المهتمون والمتخصصون بالآثار بحلب المتعهدين والجهات التي تتولى عمليات ترميم عدد كبير من المواقع بالاعتماد على أموال التبرعات بتقديم كشوف مالية توضح حجم الأموال التي يتم جمعها وتتدفق لحساب عمليات الترميم، وحجم الصرفيات وغيرها من التفاصيل المغيبة بشكل مقصود.

تشويه مواقع أثرية "ذات طابع إسلامي"

لم يكن جامع الأطروش وحده الذي غُيرت ملامحه التاريخية، وكان ضحية عمليات الترميم الارتجالية والعشوائية، هناك عشرات المواقع والأوابد التاريخية الإسلامية تتعرض اليوم لعمليات تخريب وتشويه في معظمها يتم بشكل متعمد، بينها جامع الملا خانة (الملخانة)، الذي تم هدم مئذنته وإعادة بنائها من جديد بحجة عملية الترميم (بعد الزلزال)، ولم يتم استخدام القسم الأكبر من الحجارة الأصلية في عمليات الترميم، كما أن شكلها الحالي لم يكن مطابقاً للشكل الأصلي من ناحية الزخارف والقياسات، وكان واضحاً للعيان وضع حجارة جديدة في بنية المئذنة أفقدتها هيبتها وبصمتها التاريخية.

وترجع تسمية (ملخانة/ملا خانة) إلى أتباع الطريقة المولوية الذين كانوا يتخذون المكان الواقع في حي باب الفرج مركزاً رئيسياً لهم بحلب (نسبة إلى الطريقة المولوية المنسوبة إلى جلال الدين الرومي الذي ولد 1207وتوفي 1273للميلاد ودفن في مدينة قونية التركية)، والتكية طورت كثيراً في العهد العثماني، فهي كبيرة ولها وقف خاص لمصارفها، وبنيت بين البساتين قرب نهر قويق، وهي تشتمل على مكتبة، وغرفة خاصة للشيخ، وحجرات للدراويش، وفي الوسط سماح خانه، ومن المعروف أنه عندما منعت "التكايا" في تركيا في أيام "أتاتورك" أصبح جامع الملا خانة بحلب المركز الرئيسي للمولوية وكان رئيسهم عام 1929 "محمد باكير أفندي" وكان الخليفة الثاني والثلاثين بعد الخليفة "أبو بكر الصديق" والرئيس الحادي والعشرين بعد "جلال الدين الرومي".

وفي سياق متصل، ما تزال أعمال الترميم في الجامع الأموي الكبير بحلب جارية، ويتم تداول معلومات حول  تغيير واجهة المسجد واستبدالها بواجهة لا تمت بصلة لتاريخ وذاكرة حلب وتاريخها، رغم أن أعضاء لجنة الإنجاز تضم مدير الأوقاف ومدير الآثار وممثلين عن الأمانة السورية، وتحت الضغط والشكاوى التي قدمها مهتمون بالآثار حول موضوع الاختلاف وإجراء عمليات ترميم بهوية مختلفة اجتمعت لجنة الإنجاز أكثر من مرة من دون أن تعلن عن أي توضيح علني، ويمنع على المهتمين والناشطين الحديث علناً عن المشكلات التي تعتري عمليات ترميم الجامع الكبير، وعموم التعديات والتشويه الحاصل في معظم المواقع الأثرية، الإسلامية خاصة.

ومحلة قسطاكي حمصي المهمة والجميلة جداً في المدينة القديمة كانت واحدة من البقاع التاريخية التي تعرضت أجزاء كبيرة منها مؤخراً لعمليات هدم وإزالة جائرة وغير مبررة، وهناك خشية من توسع عمليات الهدم لحساب نافذين وتجار يعملون على تغيير صفات الأبنية ومن ثم هدمها لتحويلها إلى مبان تجارية واستثمارها في المجال العقاري، وخاصة بالمواقع التي تطل على الأسواق العريقة.