تراجيديا سيدة القصر الشقراء - 2

2022.10.27 | 05:59 دمشق

تراجيديا سيدة القصر الشقراء - 2
+A
حجم الخط
-A

كان يوم الأحد 22 كانون الثاني/يناير 1905، يوماً مفصلياً في التاريخ الروسي. رغم أن أحداً لم يحمّل الإمبراطورة ألكسندرا المسؤولية المباشرة عما جرى، إلا أن معظم الروس اعتبروها شريكة زوجها في أحداث يوم "الأحد الدامي". بضعة آلاف من العمال الروس الذين يعانون من ظروف عمل سيئة، ساروا باتجاه القصر بقيادة الكاهن الأب "جورجي جابون"، لتقديم التماس إلى القيصر. فالقيصر "عين الله" كما يعتقدون، وعلى الشاب المحبوب القيام بما هو في صالح شعبه. منذ القرن الخامس عشر، كانت الالتماسات الفردية أو الجماعية وسيلة راسخة لجذب انتباه القيصر إلى المظالم.

كتبوا رسالتهم بعبارات محترمة، بل وتنطوي على كثير من الخضوع والتذلل، طالبين نجدته. لم يفكر أحد من المشاركين بالمطالبة بإسقاط النظام، وإنما فقط ببعض الإصلاحات. حتى إن معظم الأحزاب اليسارية الثورية رفضت المشاركة، بسبب افتقار "المسيرة" إلى المطالب السياسية. في طريقهم إلى القصر كانوا يحملون أيقونات دينية، ويغنون الترانيم والأغاني الوطنية، وبخاصة أغنية "حفظ الله القيصر". لكنهم ووجهوا على باب القصر بإطلاق النار، وحدثت "المجزرة". لتتفاقم الأحداث بعدها.

كان الروس يعتقدون أن القيصر طيب، لكن رجال السلطة حوله هم السيئون. هؤلاء المجرمون الكبار هم من يحولون بين القائد الشاب وشعبه

خلال أكثر من عام تم قتل ما يقدر بنحو 15 ألف روسي إما شنقاً أو بإطلاق النار، مع عدد أكبر من المصابين. ونُفي قرابة 45 ألف آخرين. كما يتراءى لبعض السُذّج في أيامنا هذه، كان الروس يعتقدون أن القيصر طيب، لكن رجال السلطة حوله هم السيئون. هؤلاء المجرمون الكبار هم من يحولون بين القائد الشاب وشعبه. هناك قول روسي شائع في تلك الفترة تداوله الفلاحون المؤمنون بصلاح الملك، أن "القيصر يعطي، لكنّ خدّامه يحجبون".

بعد يوم الأحد الدامي، لم يعد القيصر مميزاً عن رجاله وموظفيه في قلوب الروس. تم كسر العقد الاجتماعي بينه وبين مواطنيه. شعبياً أدى ما حدث، إلى نزع الشرعية عن مكانة القيصر وحقه الإلهي في الحكم. الأحد الدامي لم يبدأ كحركة ثورية متمردة، إلا أن تداعيات ما خلّفه بطش السلطة، وضعت أسس الثورة بسبب القمع العاري، الذي أدّى إلى التشكيك حتى في شرعية توريث الحكم.

الحق الإلهي في الحكم، كان أشد ما تعلّقت به ألكسندرا فيودوروفنا، لتأمين وصول كرسي العرش الروسي إلى ابنها أليكسي المصاب بالهيموفيليا. المرض الذي أخفوه عن العامة وبقي سراً عائلياً. عموماً وكما يحدث في كل الأزمان، كانت الأحاديث عن الوريث أنه بالغ التميز، لكن الحقيقة كانت في مكان آخر. على عكس ما حاولو تصدير صورة الصبي شعبياً، كان أليكسي إضافة إلى ضعفه البدني "فتى كسولاً للغاية، لأنه قادرٌ أن يكون كسولاً". كانت تلك كلمات "بيير جيليارد" (مدرّس اللغة الفرنسية لأبناء القيصر)، المنحاز كلّياً للعائلة، في كتابه "ثلاثة عشر عاماً في البلاط الروسي" المنشور عام 1921.

كان استياء العائلة الملكية من ألكسندرا يزداد. وهي بدورها بادلت العائلة الكراهية. على نحو خاص كرهت عم القيصر فلاديمير ألكساندروفيتش، الذي رفضت طلبه زواج "أولغا" كبرى بنات القيصر من ابنه. منعت العديد من أفراد العائلة من الوصول إلى القيصر، بل وحتى من دخول القصر. بينما بسبب مرض ابنها قرَّبت كاهناً شبه أمي كمعالج روحي، ليشفي وريث العرش بالرُقى والأدعية كلما أصيب بنزفٍ ما. جعلت من "غريغوري راسبوتين" الرجل الدجال والخليع، كما وصفه المجتمع الروسي، مستشاراً لها. بدايةً لأجل مرض ابنها، وفيما بعد مستشاراً فاعلاً في أمور الحكم، ليغدو سريعاً أهم رجالات القصر.

أخبر مدير الشرطة الملكة، أن راسبوتين، في حالة سكرٍ في أحد مطاعم موسكو، تفاخر بأنه أقام علاقة جنسية معها. جاء ردها صادماً للرجل: "إن الأمر لا يعدو كونه ثرثرة خبيثة، فالناس تستهجن القديسين. إنهم يكرهونه لأننا نحبه". سيكتب المدرّس جيليارد "لم يرغب القيصر أن يبعد راسبوتين. فلو مات أليكسي الصغير، سيغدو القيصر في نظر الأم، كقاتلٍ لابنه".

كان اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، لحظة محورية لروسيا وألكسندرا. حرضت الحرب مشاعر العداء بين الإمبراطورية الروسية من سلالة رومانوف ضد الإمبراطورية الألمانية من سلالة هوهنزولرن. عندما علمت ألكسندرا بالتعبئة الروسية ، اقتحمت مكتب زوجها صارخةً: "الحرب! هذه نهاية كل شيء". حدسٌ سيصدق حتى قبل نهاية الحرب.

كانت هناك خشية لدى الروس عموماً، ولدى الجنرالات ورجال السلطة وأفراد عائلة رومانوف خصوصاً، أن الإمبراطورة الغريبة سوف تحِنُّ إلى أصلها، وتنحاز إلى الألمان في حربهم على روسيا. لم يحدث هذا، ولو أن كثيرا من الشائعات سرت عن إجرائها اتصالات مع الألمان، وعن قرب انشقاقها عن زوجها، وهربها مع أولادها إلى إنكلترا. كما سرت شائعة تفيد بأن ألكسندرا أخفت شقيقها إرنست في روسيا، وأنها مع راسبوتين، كانا يجريان محادثات ليلية مع الإمبراطور الألماني "فيلهلم الثاني" للتفاوض على عقد صلحٍ مشين لروسيا.

أثارت صِلاتها العائلية الألمانية كثيرا من الشكوك. قاتَلَ الدوق "إرنست لويس" شقيق ألكسندرا، كقائد ضمن الجيش الألماني. وأكثر من ذلك، كان الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني ابن عم ألكسندرا، كما أن أختها إيرين متزوجة من هاينرش شقيق الإمبراطور العدو. كل هذا وضعها مثاراً للشكوك. لكن من المفارقات، كما سيثبت لاحقاً، أنها خلال الحرب امتلكت روحاً روسية.

كتبت معبّرةً عن كرهها لابن عمها الإمبراطور أنه "في الواقع، ليس سوى مهرج. لا قيمة حقيقية له. فضيلته الوحيدة هي أخلاقه الصارمة وإخلاصه لزوجته". كانت الإمبراطورة تبرر حقيقة بعض اتصالاتها، على أن الأمر لا يتعدى العلاقات الخاصة، وأن تلك الاتصالات حين تحدث نادراً، فإنها تتعلق بالاطمئنان عن حياة وصحة عائلتها ومعارفها هناك.

كانت الملكة في غياب الزوج، مستسلمة لتأثير راسبوتين الكاسح، فغدا في تلك الفترة، حاكم روسيا الفعلي

رغم معارضة راسبوتين أساساً لخوض الحرب ضد ألمانيا، إلا أنه بعد اندلاعها، نصح القيصر بما يشبه النبوءة، بأن روسيا ستنتصر فيما لو قاد القيصر الحرب بنفسه. قبل ذلك، كان راسبوتين أخبر ألكسندرا أن عم القيصر الجنرال "نيكولاس الأكبر"، يتمادى في نفوذه في الجيش، وأنه محبوب من الجنود، وهدفه أن يطغى على نيكولاس الثاني، فيتمكن من المطالبة بالعرش.

ذهب القيصر، قليل الخبرة العسكرية، إلى الجبهة ليقود الحرب من غرفة عمليات خاصة هناك. في أثناء غيابه أوكَل كامل مهمات الحكم لزوجته. الحقيقة، كما يفيد دارسو تلك الفترة، كان كمن أوكل الحكم إلى راسبوتين. كانت الملكة في غياب الزوج، مستسلمة لتأثير راسبوتين الكاسح، فغدا في تلك الفترة، حاكم روسيا الفعلي.

بعد أن شعرت أن كل تلك السلطات تجمعت في يديها، مالت ألكسندرا إلى سحق أي معارضة داخلية لحكم زوجها. معارضة كانت تنمو وتقوى على وقع أخبار هزائم الجيش الروسي بقيادة القيصر، والكوارث التي حلّت بالاقتصاد من جرّاء الحرب، وانعكست بشكل خاص على العمال والفلاحين الفقراء. حاولت إقناع القيصر بألا يتخلى عن سلطته المطلقة كإمبراطور، ولا عن أيٍ من صلاحياته.

في رسالة، وُجِدت مع رسائلها إلى زوجها، داخل صندوق خشبي بعد موتها (نُشرت في كتاب صدر في برلين عام 1923)، كتبت السيدة الشقراء إلى زوجها الموجود على الجبهة: "أنت سيد روسيا وملكها. الله هو من وضعك في مكانك. وعليهم جميعاً أن يسجدوا أمام حكمتك وثباتك. كُن بطرس الأكبر، كُن إيفان الرهيب. اسحقهم جميعاً".

في سيرتها الشخصية، وردَ أن ألكسندرا كانت تبدو حزينة منذ صغرها. في مراهقتها سألتها ابنة عمها وصديقة طفولتها الأميرة ماري لويز: "أليكس، أنت دائماً تلعبين دور الحزينة. في يوم من الأيام، حتماً سوف يرسل لك الله بعض الأحزان الحقيقية. عندها ماذا ستفعلين؟". ما قالته ابنة العم، ربما جزافاً أو عفو الخاطر، سوف تعيشه ألكسندرا بصورة مأساوية بالغة القسوة.