icon
التغطية الحية

تجربة المسرح السوري وتحولاته.. من الشوك حتى الشتات

2022.04.30 | 10:21 دمشق

tnfs.jpg
من مسرحية "الخوف من التنفس"
عيسى الصيادي
+A
حجم الخط
-A

تعد مقولة "الشّحن لا التنفيس" لـ بريخت من أهم المواضيع التي اعتمدها في مسرحه؛ إذ تعتمد على شحن المتفرّج للثورة على واقعه وتغييره، لا استكانته إلى ما هو فيه، وهذه إحدى أهم وظائف المسرح.

ولا يخفى على أحد نشاط الفن المسرحي السياسي عقب كل أزمة كبيرة، خاصة إن كانت كالأزمة السورية، نظراً لأهمية ذلك الفنّ في التعبير عن الشخصية وعن الفكرة ومن ثم القدرة على التواصل مع الجمهور عن طريق الأفكار والموضوعات التي يراد التعبير عنها. ولعلّ تجربة "مسرح الشوك" بعد حرب 1967 والتجربة السورية ما بعد ثورة ربيع 2011 في دول اللجوء والشتات، من التجارب المهمّة في هذا المضمار، والقاسم المشترك هو اصطلاحاً "مسرح الأزمة" أي المسرح السياسي- الاجتماعي الذي تفرزه الحروب والأزمات الكبرى، ولكن الفارق بين التجربتين هو أن مسرح الشوك أنشِئ تحت عين السلطة، بينما "مسرح الشتات" السوري -إن صحّ التعبير- فقد كان بعيداً عن المأسسة وأشبه ما يكون بالمسرح الحر.

مسرح "التنفيس" ما قبل الثورة السورية

 قد يرى بعضهم أن المسرح في بلاد يسودها الكبت السياسي كما هي الحال في سوريا، مهما كان جريئاً في طرح قضاياه، فإنّه سيتحول في النهاية إلى عملية تفريغ يومية لا "شحن" بريخت. فطبيعي أن يرفض كثيرون تحويل المسرح الجاد إلى جهاز تابع للدولة، لأن ذلك يفقده جزءاً من حريته ويحوّله إلى وسيلة للتنفيس وصرف المواطن عن قضاياه. فمشاركة الجمهور شرط أساسي لأن المسرح وسيلة لخلق الترابط وفتح الحوار، ومهمّة المسرح بهذا الشكل مهمّة ثورية، وكان لنا في سوريا تجربة المسرح السياسي بعد نكسة حزيران إلا أنه لم يحظ بالدراسة النقدية الواعية، إذ أخذت الأقلام المسرحية العربية تصوّر أحوال الجماهير المزرية، وما وصلت إليه من نتائج محبطة، وأصبح الاهتمام بالواقع المعيش الهمّ الأكبر عند المسرحي العربي عامة والمسرحي السوري خاصة.

ويمكن أن تعد مسرحية (حفلة سمر من أجل 5 حزيران) لـ سعد الله ونوس العمل الأول الذي أعطى المسرح وجهته السياسية، ولفت الأنظار إلى ما مني به العرب من هزائم تعود لأسباب متعددة مباشرة وغير مباشرة. وتتالت بعدها المسرحيات التي صوّرت الواقع السياسي ودانته فكانت مسرحية (السيل) لمؤلفها علي كنعان، ومسرحية (الزنزانة رقم 95) لــ علي عقلة عرسان ومسرحية (محاكمة الرجل الذي لم يحارب) لـ ممدوح عدوان.

 

مسرحية نونوس.jpg
من مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" لـ سعد الله ونوس (تصوير: عدي خليل)

 

تلك المسرحيات كانت الأبرز فيما سمي بمسرح (الشوك) ولا شك أنه كان تنفيسياً، خاصة في دولة "البعث" المثقلة بالقضايا "الوطنية والقومية" والصراعات السياسية وأجهزة المخابرات، والتي جعلت من ذلك المسرح تجربة فريدة لانعكاس الأزمات السياسية وارتدادها، فقد كان دور المسرح السياسي في تلك المرحلة توجيهياً، لدرجة أن بعضهم أشار إلى وجود مشاهد كانت تُخطّ بأقلام المخابرات وتحت أعين القيادة العسكرية. كما كان لوزير الدفاع في تلك المرحلة حضور في الكواليس، ولا يخفى على أحد أن المسرح الذي يخدم مرحلة راهنة ويطرح مفاهيم مؤقتة هو عبارة عن بوق تستخدمه السلطة لتحقيق مصالحها فقط.

 

محاكمة الرجل الذي لم يحارب لـ عدوان.JPG
محاكمة الرجل الذي لم يحارب لـ عدوان

 

وهنا لا يمكننا وصف مسرح الشوك في نطاق المسرح الإرشادي المباشر، علماً أننا لا ننفي إثارته للجمهور لكونه انطلق من الواقع الذي يعيشه المواطن وأشار إلى الخطأ، لكنه لم يقدّم حلاً ولم يساعد المشاهد على الخلاص من الواقع المفروض عليه. والأهم من كل ذلك، هو أنه لم يقدر على الإشارة أو التلميح إلى الرأس/ الطاغية، منبع الفساد الأول والواقع الرثّ، مكتفياً بالإشارة إلى بؤر فساد في المجتمع، وعمّم القضية وكثفها، فأخذت لوناً "تراجيكوميدياً" كما أنه سعى إلى طمس العناصر التحريضية من النص المطروح وقتها، وأقفرها من مضامينها الفكرية النقدية، بتحويله المشكلة والفاجعة إلى هزل وضحك، وبذلك اختار صفة "التنفيس".

مسرح الشتات السوري.. شحنٌ يحتاج إلى عناية

من الملاحظ أن المشتغلين -أدائياً- على المسرح السوري في الشتات، لم يتمكنوا بعد من تكوين بصمة خاصة في العمل المسرحي المتفرّد، وربما لم يحن الوقت لرسم ملامح خاصة بمسرح ما بعد الثورة، مع أن أعمالهم -على قلّتها- تنتمي إلى المسرح السياسي، لكن كل ما أنجزوه هو التركيز على نقاط محددة وقضية واحدة؛ تتمثل في نقل واقع الثورة وكشف زيف وكذب سلوكيات النظام. وبالرغم من الصعوبات المستحدثة من اغتراب من حيث اللغة والهموم المستجدة، وقلة وجود جمهور عربي، وعدم دعم واضح من قبل المؤسسات التي تنتمي إلى الدول المضيفة؛ كل ذلك من تعقيدات يحسب لهم أنهم تمكنوا من صنع شيء ما مختلف، وأوجدوا خشبة يعرضون عليها آلام السوريين وقهرهم، ساعين للانتقال إلى المسرح الإنساني العالمي المهتم بواقع الإنسان وتحولاته.

حمل مسرحيو الشتات الخشبة على أكتافهم وجلبوا معهم مسرحهم، وغرسوا فيه شخصياته، لتثمر همومهم وتطلعاتهم في بلاد لا تتحدث لغتهم، فجاءت أعمالهم أشبه بالصرخة، واضحة نقية هادفة ومباشرة إلى حد كبير، في حين لم تتح لهم منابر في بعض البلدان العربية. وبالمجمل كانت تجارب أشبه بالمغامرة في بلدان اللجوء، وتستحق الدراسة النقدية الواعية والمنصفة. إلا أن الأسلوب النقدي وإيجابية العمل المسرحي لا تكتفي بالإشارة إلى الخطأ والنصح، ومس الواقع، بل لا بد للعمل المسرحي من أن يتمثل الواقع في تحركه بصورة قادرة على أن تفتح إمكانية التغيير أمام المتفرج وتحثه على اتخاذ موقف من خلال ما يقدّم أمامه من مشاهد.

تجارب من مسرح الشتات السوري

لا شك أن للمسرح تاريخاً معقداً في الاستجابة للأزمات قبل وقت طويل من حدوثها من خلال العروض على الخشبة، يمكن عرض التحديات المعاصرة واستكشافها وحتى التنبؤ بها بطرق تساعد الجماهير على فهم العالم من حولهم. فمنذ مسرح الإغريق، تحول الجمهور إلى المسرح الحي من أجل العثور على إجابات في أوقات سياسية واجتماعية واقتصادية عصيبة،

من خلال متابعة عدد من مسرحيات ما بعد الثورة عرضت في دول الاغتراب، سأبدأ من مسرحية (الخوف من التنفس) للمخرجة (زوي لافرتي). عرضت المسرحية في لندن 2012 معتمدة على شهادات حية ومباشرة عن أحداث مروعة تعرض لها السوريون خلال سنوات الثورة، بالإضافة إلى مئات الساعات من المقابلات التي أجرتها المخرجة.

 

تنفس.jpg
من مسرحية الخوف من التنفس

 

وجاءت مسرحية (فيك تطلع برا الكاميرا) لـ محمد العطار 2012، على شكل شهادات حية أيضاً لشباب معتقلين داخل سجون النظام. وعُرضت مسرحية (قصة ثورة يتيمة - نص وإخراج ليلى كلير) في باريس 2017، في حين عرضت مسرحية (حبك نار) لـ مضر الحجي في برلين في العام نفسه.

القاسم المشترك لجميع الأعمال المسرحية المذكورة؛ هو نقل معاناة الشعب السوري الذي يرزأ تحت نير السلطة القمعية، ويحسب لهم أنهم نجحوا نسبياً في تصوير المأساة ونقلها بالإمكانات المتاحة وبرغم العراقيل التي تعيق العمل المسرحي في الخارج.

تنضوي مجمل مسرحيات ما بعد الثورة ضمن إطار المسرح السياسي المنبثق من أزمة حاضرة تطغى عليه المباشرة في الطرح والارتجال في معظم الأحيان، فالرغبة الاستعراضية كانت واضحة في الكشف عن الواقع المؤلم للسوريين ضد آلة القمع الأسدية وفي فضح أكاذيب النظام ومزاعمه، وفي مناصرة قضية المعتقلين والمعذبين. كل ذلك بالطبع كان محاولة لخلق هوية مسرحية لما بعد التحرر من سلطة "المراكز الثقافية/ الحزبية".

 

نار.jpg
"حبك نار" لـ مضر الحجي

 

ولمعت في الشتات أيضاً تجربة الأخوين ملص من خلال فرقة (مصاصة متة). حيث قدما سلسلة من مسرح العرائس تطرقا فيها إلى موضوعات سياسية مختلفة، لكنهما ولأسباب عديدة صوّرا عروضها عبر الفيديو وقاما بنشرها تحت عنوان (يوميات دكتاتور صغير) مستخدمين أربع شخصيات رئيسة من الدمى (بيشو، الشبيح، ابنة الشام، ابن الحرية) وكانت خير مثال على تنوع أساليب المسرح، والإصرار على تقديم رسالة استثنائية ومختلفة.

تلك النواة المسرحية السورية التي تشكلت في الشتات، هي في أمسّ الحاجة اليوم إلى رعاية ومتابعة جادة، لأنها قادرة بالتأكيد على صنع كثير من الأعمال الإبداعية، ومن بينها تلك التي تهتم بنقل مأساة السوريين بالصورة والتعبير الحقيقيّين.