icon
التغطية الحية

مسرح العرائس في انتقاد السلطة السياسية وتفكيك الخطاب الأيديولوجي المهيمن

2022.03.24 | 09:34 دمشق

msrh_alrays_msast_mtt_1.jpg
من عرض (مصاصة متة)
+A
حجم الخط
-A

تستعرض الباحثة (سلوى الجابري) في دراستها المعنونة "حول فن العرائس وخيال الظل الحديث" ما يشبه تاريخاً موجزاً للأدوار السياسية، الاجتماعية والثقافية التي مارستها الدمى في مسرح العرائس الذي عرفته حضارات تاريخية وثقافية متعددة.

وتعتبر الباحثة الجابري أن أولى التوظيفات لعروض مسرح الدمى لغايات التأثير الاجتماعي جاءت من ممارسات السحرة والمشعوذين، وفي القرن الثاني عشر ظهر فن العرائس في أوروبا بشكل جلي مرتديا المسوح الدينية، ومن ثم خرجت العرائس من سجن الكنيسة إلى الساحات العامة والشوارع، وتوضح الباحثة:

"أصبح البطل الرئيسي في الأعياد والاحتفالات والمهرجانات العامة التي كانت تقام بالمناسبات والأعياد الشعبية. ثم تبلورت شخصيات هذه الدمى وأخذت تمثل الشخصية الشعبية المحبوبة لدى كل منطقة. والتي ترمز إلى البطل الشعبي المحبوب الذي يتصف بالشجاعة الخارقة، بالشهامة، والرقص الجميل والصوت العذب. فتجسد الدمى في الساحات العامة شخصيات البطولة والشجاعة، ثم أخذت تخاطب الجماهير مباشرةً وتطرح أمامها شعارات تحثهم على التحرر والصحو من السبات العميق الذي أوقعها فيه حكم الاستبداد الملكي أو الكنسي أو الإقطاعي. واشتهرت الدمى بقدرتها على التعبير عن أوضاع الطبقات الشعبية، سواء في الريف أو المدينة، وذلك من خلال أسلوب ساخر يجمع الهزل والضحك مع المضمون النقدي، فتنتج الضحك من تجسيد بؤس العامة، لكنها أيضاً تنشر الفكر المطالب بالتغيير. أما الأسلوب الفني المستعمل فهو السكيتشات أي المشاهد التمثيلية القصيرة التي تروي حكايات الأنماط الاجتماعية، أو الطبقات الاقتصادية".

إن هذا البعد السياسي لمسرح العرائس، هو الذي استلهمه باكراً الإنتاج الفني السوري في محاولة التعبير عن الموضوعات السياسية والاجتماعية التي برزت مع العام 2011. وكانت مبادرة فرقة (مصاصة متة، الأخوين ملص[1]) لتقديم سلسلة من عروض مسرح العرائس والتي أعادت لهذا الفن قدرته على التطرق إلى الموضوعات السياسية وقدرته على معالجة الموضوعات الاجتماعية والثقافية.

 

مسرح العرائس مصاصة متة (2).jpg
من عرض (مصاصة متة)

 

وبسبب الوضع الرقابي، اختارت الفرقة أن تصور عروضها عبر الفيديو لنشرها على شبكة الإنترنت تحت عنوان (يوميات ديكتاتور صغير، الجزء الأول) في منتصف عام 2012، على مدار 13 حلقة. والشخصيات الأربعة الرئيسية هي: (الدمية بيشو، الدمية الشبيح، الدمية ابنة الشام، والدمية ابن الحرية). ويتضح أن شخصيات الدمى تمثل أنماطاً سياسية واجتماعية، فالدميتان الأولى والثانية تمثل السلطة والقمع، والدميتان الثالثة والرابعة تمثلان الأصالة والسعي نحو الحرية. وتتمحور الحلقات حول موضوعات متعددة، منها: بنية النظام الأمني من خلال العلاقة بين القائد وعناصر النظام الأمني، تعامل السلطة مع المظاهرات، تحايل النظام الحاكم على الخطاب المعارض وبناء سردية مضادة حوله، دور الإعلام الرسمي في تضييق الحقائق وتحويل سرديتها لما يخدم استمرارية السلطة.

في انتقاد النظام السياسي الحاكم

تتعلق الحلقة الأولى بعنوان (كوابيس بيشو) إلى بنية النظام الأمني، وهي تروي الحالة النفسية للدمية- القائد، والمعاناة من الكوابيس المتكررة منذ بدء المظاهرات الشعبية. تشكو (الدمية بيشو) من عذابات وجدانية سببتها الكراهية العنيفة التي عبر الشعب عنها في المظاهرات، أما الكوابيس المؤلمة فتتعلق بفقدان القدرة على السيطرة وسقوط النظام في يد الغوغاء.

إن الجانب الوجداني والحساس للدمية بيشو يقودها لقرار التخلي عن الحكم. وهنا تتعرض الحلقة لبنية النظام الأمني، حيث تعترض البطانة، أي الدمية الشبيح هي التي تجبره على الاستمرار في الحكم والحفاظ على النظام. وبالتالي فإن مضمون الحلقة يبين بأن القائد نفسه محكوم ببنية النظام الأمني، وهو مجبر على أداء دوره ليحمي البطانة المستمرة بالحياة بفضل بقائه بمنصبه، وتتطرق الحلقة بالتالي لخضوع القائد نفسه إلى إرداة أفراد وعناصر النظام الأمني المتمثلة في الدمية الشبيح.

أما الحلقة الحادية عشرة فتتعلق بالوعود الزائفة للنظام الاستبدادي، وفيها توجه (الدمية بيشو) خطاباً إلى الشعب، فيخطب الرئيس بالجماهير بأنه تحت سلطة القضاء والقانون، ويعد بالديمقراطية وإنشاء الأحزاب المستقلة وإنهاء سلطة الأجهزة الأمنية، لكن الخطاب في النص مبني على المراوغة، وهكذا تسقط الدمية بيشو في فخ الخطابة وتطلق على نفسها صفة الألوهية، وبالتالي فإن الحلقة تعالج غياب الديمقراطية في الحياة السياسية السورية ومحورية الحكم في القائد الأوحد.

الفن والدين والإعلام وتكريس الخطاب السلطوي

تروي حكاية الحلقة التي تحمل عنوان (الإعلام العاهر) دور الإعلام الرسمي في تحريض الفئات الاجتماعية المختلفة على نبذ الجماعات الثورية، وصولاً إلى ممارسات اتهامية وعقابية حيث أجبرت القنوات الرسمية المعتقلين والمعتقلات من الناشطين على الاعتراف أمام الشاشات ببواطنهم وانتماءاتهم إلى تيارات إرهابية أو متطرفة تكفيرية، أجبروا على تصويرها. وتستلهم الحلقة المعنونة (سوبر ستار الشبيحة) برنامج المسابقات الغنائي الترفيهي (سوبر ستار) والمخصصة للتنافس بين الإعلاميين والإعلاميات الذين يكرسون الخطاب الدعائي والتمجيدي للسلطة القائمة وتحديداً القائد بيشو. المشاركون/ات هي شخصيات عرفت بأدوارها الإعلامية في ابتكار خطاب السلطة. الأول طالب إبراهيم، وهو يكرر عبارة "مؤامرة كونية على سوريا"، ومن ثم يقدم أغنية في البرنامج:

"شو بدك حرية، وحرية ع شو ؟ ع جهلكم ؟ ما كان الأمن قبل وتمشي بالليل".

المشاركة الثانية جولاي بارود: وهي فنانة تتغنى بحب بيشو: "هي مانا ثورة، هي كلها فورة، بيشو يا حبيب الوطن".

المشارك الثالث يمثل رجالات الدين الذين كرسوا قدراتهم اللغوية والفقهية في تشكيل خطاب السلطة واستمراريته، مشارك من وزارة الأوقاف بلقب (فرفور بسيوني): "صوتو لأجل الإيمان" ويلقي قصيدة: "أنا شبيح متل الريح. حب القائد والأوطاف فرض علينا بالإيمان". تظهر ملامح شخصيات معروفة مثل الممثلة تولاي هارون مثل مفتي الجمهورية أو غيره من الذين طوعوا الخطاب الديني وجعلوا المقدس في خدمة الاستبدادي.

في تفكيك الخطاب السياسي الحاكم

وفي حلقة (الاحتجاجات في بيتي) تعاني الدمية (بيشو) من تسلل الهتافات الاحتجاجية إلى أغاني أطفال عائلته في المنزل. هذا ما يثير حفيظته وغضبه، ولايجد مفراً من اللجوء إلى معالجة غروتسكية تتهم فيها الابن والبنت بالسلفية، والتآمر، والخيانة. وتستعرض حلقة أخرى حواراً بين الدمية بيشو وروح والده القائد السابق الراحل، والخالد، والذي يخاطب ابنه من العالم الآخر من خلال صورة الرئيس الأب المعلقة في عمق المسرح. يظهر ذلك في حلقة بعنوان (الانشقاق)، والتي تبنى على عنصر المفارقة التهكمية، فقد قررت الدمية بيشو أن تنشق عن الشعب السوري المجرم الذي يهاجم الشبيحة، ترفض الدمية الحاكمة العنف الممارس من قبل مواطنيه على بطانته، وتعلن أنها تتبرأ من هذا الشعب، وأنها ستقاوم حتى النهاية، وذلك: "لكي تعود سوريا فاسدة وديكتاتورية".

أما الحلقة بعنوان (سكايب مع بوتين) فتركز على ادعاءات النظام الحاكم والموجهة إلى النظام السياسي العالمي. تبدأ الحلقة مع مارش موسيقي مؤلف من فرقة "نص تفاحة" ليكون أقرب إلى النشيد الوطني السوفييتي. تتحدث فيها الدمية بيشو عبر السكايب، من طرف واحد، مع الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين)، والغاية هي نقاش الدور الدولي السياسي في سوريا. يتابع بيشو تأكيده على ضرورة: "خطة تضليل المجتمع الدولي، تحويل المعارضة إلى صورة الإرهاب، استعادة أحداث وهلع تفجيرات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة"، ويتم فيها اتهام المعارضة السورية بالتآمر على الوطن وينتقد الجيش الحر وميوله الدينية. ومع نهاية الحلقة، يبرز المؤلف عبارة على شاشة سوداء تبين "دور الأمم المتحدة في حفظ الأمن والسلم العالمي".

عن العنف في قمع الحراك الثوري

الحلقة الثانية في الجزء الأول تحمل عنوان (من سيقتل المليون؟)، وهي تتخذ شكل برنامج المسابقات التلفزيوني من سيربح المليون، لكن هناك المليون إشارة إلى الضحايا. وتبدأ المنافسة بين الرؤوساء حسني مبارك ومعمر القذافي، ولكن المرتبة الأولى وصولاً للمليون محجوزة للدمية بيشو. أما الحلقة الحادية عشرة بعنوان (ثالثهما الشيطان) فتتألف من الحبكة المعروفة في الأدب الشعبي، فالدمية بيشو تلجأ إلى الشيطان ليقدم لها النصائح ويساعدها على قمع التمرد الشعبي. لكن الحلول التي يقدمها الشيطان تبدو رحيمة وعطوفة بنظرها، فتشرع الدمية في تعليم الشيطان على أساليب أكثر قسوة: اعتقال، قصف، حرق. فتتفوق الدمية بيشو في أفكارها الشريرة على الشيطان نفسه. حينها يهرب الشيطان من وحشية أفكار الدمية بيشو. الدمية بيشو تتفوق على الشيطان بابتكارات الشر.

في العام نفسه 2012، أنتجت الفرقة الجزء الثاني من السلسلة المسرحية بعنوان (يوميات ديكتاتور صغير، الجزء الثاني، 17 حلقة)، وفي هذا الجزء يستمر الانتقاد الفني لخطاب وممارسات السلطة الحاكمة، لكن يظهر بوضوح أيضاً في مضامين الحلقات الانتقاد للممارسات الثورية المتعلقة بالعنف الثوري، والفساد، وكنا قد خصصنا له مقالة سابقة بعنوان (الجدليات التاريخية الأصيلة في المسرح الثوري)[2].

 

 


[1] - لا تتضمن المعلومات المتوافرة  عن العمل الفني أي أسماء لصناع العمل، فنانيه أو كتابه، سوى اسم الفرقة (مصاصة متة)، واسم الثنائي المسرحي (الأخوين ملص).
[2] - نص المقال في موقع تلفزيون سوريا.